بالهدوء والطمأنينة تكون قوتكم

تعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجوم
 

                                                                                                                                                                                             

 مقدمة
يقول الكتاب المقدس في سفر إشعياء النبي: "لأَنَّهُ هَكَذَا قَالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ قُدُّوسُ إِسْرَائِيلَ: "بِالرُّجُوعِ وَالسُّكُونِ تَخْلُصُونَ. بِالْهُدُوءِ وَالطُّمَأْنِينَةِ تَكُونُ قُوَّتُكُمْ". فَلَمْ تَشَاءُوا. وَقُلْتُمْ: "لاَ بَلْ عَلَى خَيْلٍ نَهْرُبُ". لِذَلِكَ تَهْرُبُونَ. وَ"عَلَى خَيْلٍ سَرِيعَةٍ نَرْكَبُ". لِذَلِكَ يُسْرِعُ طَارِدُوكُمْ. يَهْرُبُ أَلْفٌ مِنْ زَجْرَةِ وَاحِدٍ. مِنْ زَجْرَةِ خَمْسَةٍ تَهْرُبُونَ حَتَّى أَنَّكُمْ تَبْقُونَ كَسَارِيَةٍ عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ وَكَرَايَةٍ عَلَى أَكَمَةٍ" (إش30: 15-17).

 وأيضًا يقول: "لأَنَّكُمْ قُلْتُمْ: "قَدْ عَقَدْنَا عَهْدًا مَعَ الْمَوْتِ وَصَنَعْنَا مِيثَاقًا مَعَ الْهَاوِيَةِ. السَّوْطُ الْجَارِفُ إِذَا عَبَرَ لاَ يَأْتِينَا لأَنَّنَا جَعَلْنَا الْكَذِبَ مَلْجَأَنَا وَبِالْغِشِّ اسْتَتَرْنَا". لِذَلِكَ هَكَذَا يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ: "هَأنَذَا أُؤَسِّسُ في صِهْيَوْنَ حجرًا حَجَرَ امْتِحَانٍ حَجَرَ زَاوِيَةٍ كَرِيمًا أَسَاسًا مُؤَسَّسًا. مَنْ آمَنَ لاَ يَهْرُبُ. وَأَجْعَلُ الْحَقَّ خَيْطًا وَالْعَدْلَ مِطْمَارًا فَيَخْطُفُ الْبَرَدُ مَلْجَأَ الْكَذِبِ وَيَجْرُفُ الْمَاءُ السِّتَارَةَ. وَيُمْحَى عَهْدُكُمْ مَعَ الْمَوْتِ وَلاَ يَثْبُتُ مِيثَاقُكُمْ مَعَ الْهَاوِيَةِ" (إش 28: 15-18).



 النصيحة التي قالها الرب للشعب في الحياة الروحية: "بِالرُّجُوعِ وَالسُّكُونِ تَخْلُصُونَ. بِالْهُدُوءِ وَالطُّمَأْنِينَةِ تَكُونُ قُوَّتُكُمْ" ولكنهم في ذلك الوقت لم يسمعوا لكلامه؛ لأنه يقول: "فَلَمْ تَشَاءُوا", وقالوا: "جَعَلْنَا الْكَذِبَ مَلْجَأَنَا وَبِالْغِشِّ اسْتَتَرْنَا" أي أنهم حاولوا أن يُوجِدوا وسائل بشرية, أو شيطانية تحميهم وظنوا أنها الوسائل التي يجدون بها الأمان, في مقابل أخطاء الشعب هذه والتي قال عنها "قُلْتُمْ: قَدْ عَقَدْنَا عَهْدًا مَعَ الْمَوْتِ وَصَنَعْنَا مِيثَاقًا مَعَ الْهَاوِيَةِ".. تكلم عن السيد المسيح وقال "وَأَجْعَلُ الْحَقَّ خَيْطًا وَالْعَدْلَ مِطْمَارًا فَيَخْطُفُ الْبَرَدُ مَلْجَأَ الْكَذِبِ وَيَجْرُفُ الْمَاءُ السِّتَارَةَ. وَيُمْحَى عَهْدُكُمْ مَعَ الْمَوْتِ وَلاَ يَثْبُتُ مِيثَاقُكُمْ مَعَ الْهَاوِيَةِ". من زاوية كان سلوك الشعب يغضب اللَّه, لكن ربنا عندما يحب أن يقيم الحق والعدل ويمحو الكذب الذي جعلوه ملجأهم والغش ستارتهم -أي استتروا به- يقول لهم "فَيَخْطُفُ الْبَرَدُ مَلْجَأَ الْكَذِبِ وَيَجْرُفُ الْمَاءُ السِّتَارَةَ" أي ستارة الغش, "وَأَجْعَلُ الْحَقَّ خَيْطًا وَالْعَدْلَ مِطْمَارًا... أُؤَسِّسُ في صِهْيَوْنَ حجرًا حَجَرَ امْتِحَانٍ حَجَرَ زَاوِيَةٍ كَرِيمًا أَسَاسًا مُؤَسَّسًا" وحجر الزاوية طبعًا هو السيد المسيح "الْحَجَرُ الذي رَذلهُ الْبَنَّاؤُونَ هذا صَارَ رَأْسًا للزَّاوِيَةِ" (مز 118(117) : 22).

 ولنتأمل الآن في عبارة "بِالرُّجُوعِ وَالسُّكُونِ تَخْلُصُونَ. بِالْهُدُوءِ وَالطُّمَأْنِينَةِ تَكُونُ قُوَّتُكُمْ".

حياة الإيمان والتسليم

مهم جدًا للإنسان الروحي أن يعرف أولًا وقبل كل شيء أن النصرة على الشر تكمن في ثقته بربنا, وفي حياة التسليم وتكمن في إيمانه بفاعلية الصلاة, وحياة الهدوء والسكون هي من ضمن مقومات حياة الرهبنة.

الطمأنينة تنشأ عن الثقة في مواعيد ربنا, وعن حياة التسليم, والإيمان في قدرة اللَّه ضابط الكل, لكن الإنسان الذي عنده قلق واضطراب يدل على أن إيمانه غير ثابت, "يَجِبُ أَنَّ الذي يأتي إِلَى اللَّه يُؤْمِنُ بِأَنَّهُ مَوْجُودٌ، وَأَنَّهُ يُجَازِى الَّذِينَ يَطْلُبُونَهُ" (عب 11 :6), والسيد المسيح قال لتلاميذه: "سلاَمًا أَتْرُكُ لَكُمْ. سلاَمِي أُعْطِيكُمْ. لَيْسَ كَمَا يُعْطِى الْعَالَمُ أُعْطِيكُمْ أَنَا" (يو14 :27). وقال لهم: "وَلَكِنِّى سَأَرَاكُمْ أَيْضًا فَتَفْرَحُ قُلُوبُكُمْ وَلاَ يَنْزِعُ أَحَدٌ فَرَحَكُمْ مِنْكُمْ" (يو16: 22). شعور الإنسان أن حياته في يد ربنا يجعله يستطيع أن يعيش في طمأنينة, لأن السيد المسيح وعد وقال: "وَلَكِنَّ شَعْرَةً مِنْ رُؤُوسِكُمْ لاَ تَهْلِكُ" (لو21 :18). وقال أيضًا: "فَلاَ تَهْتَمُّوا قَائِلِينَ: مَاذَا نَأْكُلُ أَوْ مَاذَا نَشْرَبُ أَوْ مَاذَا نَلْبَسُ؟ فَإِنَّ هَذِهِ كُلَّهَا تَطْلُبُهَا الأُمَمُ. لأَنَّ أَبَاكُمُ السَّمَاوِي يَعْلَمُ أَنَّكُمْ تَحْتَاجُونَ إِلَى هَذِهِ كُلِّهَا" (مت6: 32,31). فالإنسان الذي يعيش مع ربنا يشعر أنه لا يوجد شيء يحدث في حياته أبدًا إلاّ بسماح من ربنا؛ لذلك معلمنا بولس الرسول يقول: "وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ الأَشْيَاءِ تَعْمَلُ مَعًا لِلْخَيْرِ للَّذِينَ يُحِبُّونَ اللَّه الَّذِينَ هُمْ مَدْعُوُّونَ حَسَبَ قَصْدِهِ" (رو8: 28), كل الأشياء تعمل معًا للخير حتى الأشياء التي تبدو مزعجة أو مؤلمة أو مخيفة, مَن يستطيع أن يؤذى إنسانًا متكلًا على اللَّه؟ مَن يستطيع أن يغير خطة اللَّه ومقاصده وتدبيره؟ معلمنا بولس الرسول كان يعيش هذه المعاني طبعًا عندما قال "كل الأشياء تعمل معًا للخير" فأكمل قائلًا "فَمَاذَا نَقُولُ لِهَذَا؟ إِنْ كَانَ اللَّه مَعَنَا فَمَنْ عَلَيْنَا! الذي لَمْ يُشْفِقْ عَلَى ابْنِهِ بَلْ بَذَلَهُ لأَجْلِنَا أَجْمَعِينَ كَيْفَ لاَ يَهَبُنَا أَيْضًا مَعَهُ كُلَّ شيء؟ مَنْ سَيَشْتَكِى عَلَى مُخْتَارِى اللَّه؟ اللَّه هُوَ الذي يُبَرِّرُ مَنْ هُوَ الذي يَدِينُ؟ الْمَسِيحُ هُوَ الذي مَاتَ بَلْ بِالْحَرِي قَامَ أَيْضًا الذي هُوَ أَيْضًا عَنْ يَمِينِ اللَّه الذي أَيْضًا يَشْفَعُ فِينَا" (رو8: 31-34).

هنا يربط بين أمرين, أن السيد المسيح هو الشفيع وهو الذي يدين العالم في اليوم الأخير, وهو الفادي, وإذا كان الديان هو الفادي والديان هو الذي يشفع فينا حاليًا؛ إذًا السيد المسيح بكل الإمكانيات الفائقة مستعد أن يوآزر مسيرتنا في الكفاح ضد مملكة الظلمة الروحية, ولكن المهم أن نتجاوب ونقبل ونطلب المعونة ونظل أُمناءً إلى النهاية, "مَنْ سَيَفْصِلُنَا عَنْ مَحَبَّةِ الْمَسِيحِ؟ أَشِدَّةٌ أَمْ ضَيْقٌ أَمِ اضْطِهَادٌ أَمْ جُوعٌ أَمْ عُرْى أَمْ خَطَرٌ أَمْ سَيْفٌ؟" (رو8: 35). معلمنا بولس الرسول كان يمر بكل هذه الأمور, شدة وضيق واضطهاد وجوع وعرى وخطر وسيف... "كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ "إِنَّنَا مِنْ أَجْلِكَ نُمَاتُ كُلَّ النَّهَارِ. قَدْ حُسِبْنَا مِثْلَ غَنَمٍ لِلذَّبْحِ". وَلَكِنَّنَا في هَذِهِ جَمِيعِهَا يَعْظُمُ انْتِصَارُنَا بِالَّذِي أَحَبَّنَا. فَإِنِّي مُتَيَقِّنٌ أَنَّهُ لاَ مَوْتَ وَلاَ حَيَاةَ وَلاَ مَلاَئِكَةَ وَلاَ رُؤَسَاءَ وَلاَ قُوَّاتِ وَلاَ أُمُورَ حَاضِرَةً وَلاَ مُسْتَقْبَلَةً. وَلاَ عُلْوَ وَلاَ عُمْقَ وَلاَ خَلِيقَةَ أُخْرَى تَقْدِرُ أَنْ تَفْصِلَنَا عَنْ مَحَبَّةِ اللَّه التي في الْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا" (رو8: 36-39). إذًا هناك دوامات واضطرابات عنيفة جدًا كان يجتازها معلمنا بولس الرسول, إذ يقول: "حَارَبْتُ وُحُوشًا في أَفَسُسَ" (1كو15: 32), ومرة أخرى يقول: "تَثَقَّلْنَا جِدًّا فَوْقَ الطَّاقَةِ، حَتَّى أَيِسْنَا مِنَ الْحَيَاةِ أَيْضًا" (2كو1: 8) أيسنا بمعنى يأسنا, ولكن ليس يأسًا من مراحم ربنا, لكن يقصد أنهم شعروا أنه لا فائدة من أن يعيشوا مرة أخرى وحتى في هذا الوضع يقول "مِنْ أَجْلِكَ نُمَاتُ كُلَّ النَّهَارِ", ويقول "وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ الأَشْيَاءِ تَعْمَلُ مَعًا لِلْخَيْرِ".

 لا يستطيع أحد أن ينزع السلام من حياة أولاد اللَّه "وَسَلاَمُ اللَّه الذي يَفُوقُ كُلَّ عَقْلٍ يَحْفَظُ قُلُوبَكُمْ وَأَفْكَارَكُمْ في الْمَسِيحِ يَسُوعَ" (في4: 7), بالرغم من الاضطرابات العنيفة التي من الممكن أن تمر عليهم.

 معلمنا بولس الرسول يقول: "مُبَارَكٌ اللَّه أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، أَبُو الرَّأْفَةِ وَإِلَهُ كُلِّ تَعْزِيَةٍ، الذي يُعَزِّينَا في كُلِّ ضِيقَتِنَا، حَتَّى نَسْتَطِيعَ أَنْ نُعَزِّى الَّذِينَ هُمْ في كُلِّ ضِيقَةٍ بِالتَّعْزِيَةِ التي نَتَعَزَّى نَحْنُ بِهَا مِنَ اللَّه. لأَنَّهُ كَمَا تَكْثُرُ آلاَمُ الْمَسِيحِ فِينَا، كَذَلِكَ بِالْمَسِيحِ تَكْثُرُ تَعْزِيَتُنَا أَيْضًا" (2كو1: 3-5).

 ما هي التعزية التي كان يأخذها في الضيقات؟ أكيد كان جزء منها مثلًا عندما كان هو والقديس سيلا في سجن فيلبى ووضعوهما في المقطرة الداخلية فكانا يسبحان والمساجين يسمعونهما, ثم جاء ملاك الرب وأضاء السجن وفتح أبوابه وفك قيودهما, والمأمور كان سيقتل نفسه, لكن القديس بولس الرسول قال له: نحن كلنا هنا ولم يهرب أحد "لاَ تَفْعَلْ بِنَفْسِكَ شَيْئًا رَدِيًّا لأَنَّ جَمِيعَنَا هَهُنَا" (أع 16 : 28). وبشَّره بالسيد المسيح فآمن واعتمد, إذًا القديسان بولس الرسول وسيلا ضُربا بدون محاكمة -مع أن القديس بولس الرسول معه الجنسية الرومانية- وسُجنا ووُضعا في المقطرة الداخلية, أما التعزية فبدأت في شعورهما بأنه: "إِنْ كُنَّا نَتَأَلَّمُ مَعَهُ لكي نَتَمَجَّدَ أَيْضًا مَعَهُ" (رو8: 17), "كَمَا تَكْثُرُ آلاَمُ الْمَسِيحِ فِينَا، كَذَلِكَ بِالْمَسِيحِ تَكْثُرُ تَعْزِيَتُنَا أَيْضًا".. إنه منهج.. فهو وضع طبيعي اعتاد عليه أنه عندما تكثر آلام المسيح تكثر التعزية, فظلا يسبِحان وهما في هذا الوضع المؤلم والمُزري في نفس الوقت؛ لأنهما أُهينا كثيرًا في هذا اليوم؛ فأضاء السجن والمسجونون كانوا يسمعون, وانفتحت أبواب السجن وانحلت القيود وبدأ معلمنا بولس الرسول يُبشِّر في داخل السجن؛ لأن ربنا أرسله ليبشِّر بالإنجيل, وانعكس الوضع فأصبح السجَّان هو التلميذ وهما معلمان, وهو يريد أن يقتل نفسه وهما يطمئناه. ومأمور السجن اعتمد هو وأهل بيته, وليس بمستَبعَدٍ أيضًا أن يكون المسجونون قد اعتمدوا كلهم؛ لأنهم حضروا الموقف من بدايته قبل المأمور. وانتهت المسألة أن المأمور قال لهما: جاءت أوامر بالإفراج عنكما فأجابا: لن نخرج, إنهم ضربونا بدون محاكمة؛ فيجب أن يحضروا إلى هنا ويعتذروا لنا في السجن أولًا, ثم نخرج. المسألة بدأت بالاستهزاء والازدراء, وانتهت بأنهما هما اللذان يعطيان الأوامر للمأمور وللولاة؛ حتى يحضروا ليقدموا لهما الاحترام والخضوع.

معلمنا بولس الرسول كان معتادًا على هذا الوضع؛ فأيضًا عندما أرسلوه مسجونًا في السفينة, كانت ستغرق لكن ربنا أعطاه نفوس الذين معه, وأصبح هو الذي يُصدر الأوامر ماذا يفعلون. فقال لهم كفاكم صومًا... فأطاعوا, القوا الأحمال من السفينة... فألقوها.. هو الذي يقود السفينة والمسجونين والضباط والجميع... وفي النهاية نجوا كلهم وعلموا إن ما قاله القديس بولس الرسول قد حدث وكانوا منتظرين المزيد من الأوامر أيضًا... هو مسجون ومحروس في المأمورية لكنه لم يهرب؛ لكي لا يضر الحارس الخاص به. ولكن الكل يأخذ الأوامر منه هو وعندما نزلوا في جزيرة مالطة؛ نشبت حية في يده وهو يوقد النار "رَأَى الْبَرَابِرَةُ الْوَحْشَ مُعَلَّقًا بِيَدِهِ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: "لاَ بُدَّ أَنَّ هَذَا الإنسان قَاتِلٌ لَمْ يَدَعْهُ الْعَدْلُ يَحْيَا وَلَوْ نَجَا مِنَ الْبَحْرِ". فَنَفَضَ هُوَ الْوَحْشَ إِلَى النَّارِ وَلَمْ يَتَضَرَّرْ بشيء رَدِيءٍ. وَأَمَّا هُمْ فَكَانُوا يَنْتَظِرُونَ أَنَّهُ عَتِيدٌ أَنْ يَنْتَفِخَ أَوْ يَسْقُطَ بَغْتَةً مَيْتًا. فَإِذِ انْتَظَرُوا كَثِيرًا وَرَأَوْا أَنَّهُ لَمْ يَعْرِضْ لَهُ شيء مُضِرٌّ تَغَيَّرُوا وَقَالُوا: "هُوَ إِلَهٌ!" (أع28: 4-6). ولما رأى أنهم سيعبدوه حزن جدًا ومنعهم من ذلك وابتدأ يكلمهم بكلمة الخلاص والبشارة؛ فأصبح الذين في السفينة والذين في الجزيرة.. الكل تحت أمره.

معلمنا بولس الرسول في روما

عندما وصل القديس بولس الرسول إلى روما استأجر لنفسه بيتًا، وسمحوا له أن كل من يريد أن يستضيفه يأتي بكل ترحاب؛ فتحول هذا البيت من سجن إلى كنيسة, فحضر الناس ليسمعوا الوعظ, ولما أرسل رسالة من هذا البيت لأهل فيلبى قال لهم: "يُسَلِّمُ عَلَيْكُمْ جَمِيعُ الْقِدِّيسِينَ وَلاَ سِيَّمَا الَّذِينَ مِنْ بَيْتِ قَيْصَرَ" (في 4 : 22), أي أنه قد وصل الأمر إلى أن أهل بيت قيصر بدأوا يحضرون إليه ليسمعوا كلمة الخلاص, يقول لهم "أُمُورِي قَدْ آلَتْ أَكْثَرَ إِلَى تَقَدُّمِ الإِنْجِيلِ. حَتَّى إِنَّ وُثُقِي صَارَتْ ظَاهِرَةً في الْمَسِيحِ في كُلِّ دَارِ الْوِلاَيَةِ وفي بَاقِي الأَمَاكِنِ أَجْمَعَ" (في 1 : 12, 13). كان مقيمًا في روما كسجين, بينما هو يبشر, وأقام كنيسة والضباط والعساكر قالوا له: نحن تحت أمرك, أنت تأمر ونحن ننفذ, وهذا يتضح من تعليق الكتاب المقدس على هذا الموقف فيقول "وَأَقَامَ بُولُسُ سَنَتَينِ كَامِلَتَينِ في بَيْتٍ اسْتَأْجَرَهُ لِنَفْسِهِ. وَكَانَ يَقْبَلُ جَمِيعَ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ إِلَيْهِ. كَارِزًا بِمَلَكُوتِ اللهِ وَمُعَلِّمًا بِأَمْرِ الرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ بِكُلِّ مُجَاهَرَةٍ بِلاَ مَانِعٍ" ( أع 28 : 30, 31). وفي نفس الوقت قال القديس لوقا أيضًا في سفر أعمال الرسل "وَلَمَّا أَتَيْنَا إِلَى رُومِيَةَ سَلَّمَ قَائِدُ الْمِئَةِ الأَسْرَى إِلَى رَئِيسِ الْمُعَسْكَرِ وَأَمَّا بُولُسُ فَأُذِنَ لَهُ أَنْ يُقِيمَ وَحْدَهُ مَعَ العسكريَّ الذي كَانَ يَحْرُسُهُ" (أع 28 : 16). أي أعطاه عسكريًا واحدًا (شيء رمزي فقط), وقال له أنت تقيم في أي مكان تحبه, ثم "بعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ اسْتَدْعَى بُولُسُ الَّذِينَ كَانُوا وُجُوهَ الْيَهُودِ" (أع 28 : 17) ثم قال لليهود عندما لم يؤمنوا إنه سوف يبشر الأمم "وَكَانَ يَقْبَلُ جَمِيعَ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ إِلَيْهِ. كَارِزًا بِمَلَكُوتِ اللهِ وَمُعَلِّمًا بِأَمْرِ الرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ بِكُلِّ مُجَاهَرَةٍ بِلاَ مَانِعٍ".

المظهر الخارجي أو البداية هو آلام وضيقات, لكن النتيجة دائمًا في صالحه, بمعنى أنه من خلال الألم والضيق تخرج تعزيات, وهذه التعزيات يمكن أن تكون رؤى أو إعلانات -يُختطف للسماء الثالثة- فالتعزية التي تأتى عن طريق الآلام لا تقاس؛ فما حدث في سجن فيلبى نتيجته كانت أكثر مما يتوقعه أحد. وكذلك ما حدث في السفينة والأحداث التي في البحر وفي روما أكثر مما يتوقعه أحد. وعندما ضربوه وألقوه خارج المدينة وظنوه قد مات, غالبًا هذه المناسبة هي التي صعد فيها أو اختطف إلى السماء الثالثة هو نفسه لا يعرف هل كان في الجسد أم خارج الجسد, لكن عاش بعدها, عندما يرى الفردوس ويسمع أمورًا لا يسوغ لإنسان أن يتكلم عنها, أليست هذه تعزيةً؟ "اخْتُطِفَ إِلَى الْفِرْدَوْسِ، وَسَمِعَ كَلِمَاتٍ لاَ يُنْطَقُ بِهَا، وَلاَ يَسُوغُ لإِنْسَانٍ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهَا" (2كو 12 : 2-4).

ضرورة الضيقات في الرهبنة

هناك مَن يظنون أن الراهب بمجرد أن يدخل القلاية ويغلق الباب سوف يصل إلى السماء الثالثة مباشرةً! مثل معلمنا بولس الرسول -ولكن بولس الرسول لكي يصل للسماء الثالثة ضُرب حتى الموت- فلا يجب أن يعتقد أحد أنه طالما لبس شكل الرهبنة سيصعد إلى الفردوس, يقول الشيخ الروحاني [إلى متى تعزى نفسك بالسواد](1).

لابد أن نفهم أن هذه التعزيات لها مدخل وليست عبثًا, ويظن الإنسان أنه وصل إلى أعلى الدرجات الروحية وهو ليست له أية تجارب وتضحيات بعد توصله إلى هذا المستوى, ولكن هذا لا يمنع أن التعزية متاحة للكل, لكن الإنسان "لاَ يَرْتَئِي فَوْقَ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَرْتَئِي بَلْ يَرْتَئِي إِلَى التَّعَقُّل" (رو 12 : 3). يقول أنا مازلت صغيرًا.. أنا مازلت في أول الطريق.. أين أنا من هؤلاء الناس الكبار! ويقول "مُبَارَكٌ اللهُ أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، أَبُو الرَّأْفَةِ وَإِلَهُ كُلِّ تَعْزِيَةٍ، الذي يُعَزِّينَا في كُلِّ ضِيقَتِنَا، حَتَّى نَسْتَطِيعَ أَنْ نُعَزِّى الَّذِينَ هُمْ في كُلِّ ضِيقَةٍ بِالتَّعْزِيَةِ التي نَتَعَزَّى نَحْنُ بِهَا مِنَ اللهِ. لأَنَّهُ كَمَا تَكْثُرُ آلاَمُ الْمَسِيحِ فِينَا، كَذَلِكَ بِالْمَسِيحِ تَكْثُرُ تَعْزِيَتُنَا أَيْضًا. فَإِنْ كُنَّا نَتَضَايَقُ فَلأَجْلِ تَعْزِيَتِكُمْ وَخَلاَصِكُمُ، الْعَامِلِ في احْتِمَالِ نَفْسِ الآلاَمِ التي نَتَأَلَّمُ بِهَا نَحْنُ أَيْضًا. أَوْ نَتَعَزَّى فَلأَجْلِ تَعْزِيَتِكُمْ وَخَلاَصِكُمْ فَرَجَاؤُنَا مِنْ أَجْلِكُمْ ثَابِتٌ. عَالِمِينَ أَنَّكُمْ كَمَا أَنْتُمْ شُرَكَاءُ فِي الآلاَمِ، كَذَلِكَ فِي التَّعْزِيَةِ أَيْضًا" (2كو 1 : 3-7), ثم ضرب معلمنا بولس الرسول لهم مثلًا بسيطًا -لئلا يعتقدوا أنه مجرد كلام إنشاء- قائلًا "فَإِنَّنَا لاَ نُرِيدُ أَنْ تَجْهَلُوا أَيُّهَا الإِخْوَةُ مِنْ جِهَةِ ضِيقَتِنَا التي أَصَابَتْنَا في أَسِيَّا، أَنَّنَا تَثَقَّلْنَا جِدًّا فَوْقَ الطَّاقَةِ، حَتَّى أَيِسْنَا مِنَ الْحَيَاةِ أَيْضًا" (2كو 1 : 8). أي شعرنا أننا سنموت لا محالة.

الآن أصبح البعض مرهف الحس بطريقة زائدة وكأنهم أطفال, وأصبح مستوى الرفاهية كبيرًا جدًا في الحياة الروحية, بينما الكتاب المقدس يقول: "كُونُوا رِجَالًا. تَقَوُّوا" (1كو 16: 13) والقديس بولس الرسول يقول "أَنَّنَا تَثَقَّلْنَا جِدًّا فَوْقَ الطَّاقَةِ، حَتَّى أَيِسْنَا مِنَ الْحَيَاةِ أَيْضًا, لَكِنْ كَانَ لَنَا في أَنْفُسِنَا حُكْمُ الْمَوْتِ، لكي لاَ نَكُونَ مُتَّكِلِينَ عَلَى أَنْفُسِنَا بَلْ عَلَى اللهِ الذي يُقِيمُ الأَمْوَاتَ" (2كو 1 : 8, 9). شيء جميل جدًا إنه عندما يأس من الحياة هذا جعله يصل إلى شيء استفاد منه وهو إنه اتكل على اللَّه واعتبر أنه قد كُتِب له عمرًا جديدًا؛ بمعنى أنه سعيد جدًا لأنه وصل إلى هذه الحالة, وصل إلى حافة الموت؛ لذلك يقول: "الذي نَجَّانَا مِنْ مَوْتٍ مِثْلِ هَذَا، وَهُوَ يُنَجِّى. الذي لَنَا رَجَاءٌ فِيهِ أَنَّهُ سَيُنَجِّى أَيْضًا فِيمَا بَعْدُ. وَأَنْتُمْ أَيْضًا مُسَاعِدُونَ بِالصَّلاَةِ لأَجْلِنَا، لكي يُؤَدَّى شُكْرٌ لأَجْلِنَا مِنْ أَشْخَاصٍ كَثِيرِينَ، عَلَى مَا وُهِبَ لَنَا بِوَاسِطَةِ كَثِيرِينَ" (2كو1: 10, 11). هنا يوضح أنه وضع مستمر, فهو مستعد أن يقترب من الموت مرات كثيرة بلا مشكلة؛ لأنه يعلم أن حياته في يد ربنا وأنها لن تنتهي إلاَّ في الوقت الذي يريده الله, بل أكثر من ذلك قال: "لي اشْتِهَاءٌ أَنْ أَنْطَلِقَ وَأَكُونَ مَعَ الْمَسِيحِ. ذَاكَ أَفْضَلُ جِدًّا وَلَكِنْ أَنْ أَبْقَى في الْجَسَدِ أَلْزَمُ مِنْ أَجْلِكُمْ" (في1: 23 , 24 ). أي سأظل قليلًا لأجلكم.

الشكر في الصلاة

 يقول "وَأَنْتُمْ أَيْضًا مُسَاعِدُونَ بِالصَّلاَةِ لأَجْلِنَا، لكي يُؤَدَّى شُكْرٌ لأَجْلِنَا مِنْ أَشْخَاصٍ كَثِيرِينَ، عَلَى مَا وُهِبَ لَنَا بِوَاسِطَةِ كَثِيرِينَ". شيء جميل جدًا أن معلمنا بولس الرسول وهو شخصية جبارة جدًا في قامته الروحية؛ لكن في الوقت نفسه يعلم أنه كلما كثر الذين يصلون كلما كانت الفاعلية أكثر. لأن حياة الشكر هي جزء أساسي من الحياة الروحية, وسر الإفخارستيا نفسه يُسمى "سر الشكر".

 إن الخليقة عندما تشكر اللَّه وتسبحه يفرح قلبه, وكلما يكثر عدد الذين يشكرون الله ويسبحونه؛ فهذا أمر يُفرح السماء كلها. فلا يقول أي راهبٍ {أنا إذا حضرت التسبحة فلن أزيد أو أنقص شيئًا}, طبعًا تُزيد أو تنقص؛ لأن المفروض أن الخليقة كلها تسبح اللَّه وتشكره, وإن كان الله غير محتاج لهذه الأمور, لكنه يفرح من أجل منفعة الذين يصلون والذين يشكرون؛ لأن هذا يمثل أنهم يدخلون في شركة مع الثالوث الأقدس وهذه الشركة تجعلهم يكتشفون أعماق اللَّه ويكتشفون أمورًا تسبب لهم سعادة وفرح وتعزية.

السكون هو عمل الراهب

 نعود ثانيةً إلى قول إشعياء النبي "بِالرُّجُوعِ وَالسُّكُونِ تَخْلُصُونَ. بِالْهُدُوءِ وَالطُّمَأْنِينَةِ تَكُونُ قُوَّتُكُمْ" (إش30 : 15). الطمأنينة تعطى الإنسان قوةً في مواجهة الصعاب والضيقات وفي الشهادة للمسيح, لكن عندما يكون الإنسان خائفًا تكون شهادته ضعيفة, الطمأنينة لا تعنى الضعف بل بالعكس؛ لأن الإنسان المؤمن يشعر أن حياته في يد اللَّه فلا يخاف أحدًا ولا يخاف من شيء أبدًا.

 السكون هو عمل الراهب, فإذا كانت هذه العبارة قيلت لعامة الشعب فكم وكم تكون بالنسبة للراهب, إذا كان الخلاص بالنسبة للشعب يكون بالسكون فكيف يخلص الراهب بدون حياة السكون!.. السكون يتضمن عدم الاندفاع في الكلام وفي رد الفعل وفي الغضب, السكون هو عدم الانجراف وراء حب الاستطلاع وعدم التدخل في شئون الآخرين, السكون معناه البعد عن العالم وعدم التعلُّق به.

الراهب الذي يختلط بالعلمانيين أكثر من اللازم يفقد سكونه.. فالسكون هو البعد عن الأخبار التي تثير القلق والاضطراب, يوجد راهب يجلب التعب لنفسه؛ فيريد أن يعرف أخبار أسرته وغالبًا أخبارهم لا تَسُر؛ ربما لديهم شخص مريض, شخص رسب أو لم يحصل على مجموع كافٍ, شخص انتقل من هذا العالم.. أهل العالم اختاروا لأنفسهم الطريق الصعب. معلمنا بولس الرسول قالها صراحةً أنه خائف على مَن يتزوج لأنه سيكون له ضيق في الجسد "وَلَكِنَّ مِثْلَ هَؤُلاَءِ يَكُونُ لَهُمْ ضِيقٌ في الْجَسَدِ. وَأَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُشْفِقُ عَلَيْكُمْ" (1كو 7 : 28). وقال أيضًا "هَذَا أَقُولُهُ لِخَيْرِكُمْ لَيْسَ لكي أُلْقِى عَلَيْكُمْ وَهَقًا بَلْ لأَجْلِ اللِّيَاقَةِ والْمُثَابَرَةِ لِلرَّبِّ مِنْ دُونِ ارْتِبَاكٍ" (1كو 7 : 35). أما الراهب فقد خَلُص من هَمْ العالم؛ لذلك فإني أتعجب من راهب أو راهبة بعد أن يكون قد تخلص من هَمْ العالم يظل متشوِّقًا لسماع الأخبار وخصوصًا أخبار أسرته, وربما يقول إنني أريد معرفة أخبارهم؛ لكي أصلى من أجلهم... فالأفضل أن يصلى من أجلهم دون معرفة أخبارهم؛ لأنهم غالبًا محتاجون لذلك, لأن بمجرد معرفة أخبارهم يبدأ القلق. نحن نسمح بزيارة الأهالي للرهبان والراهبات؛ تخفيفًا على الأهالي, ولئلا يمانع الأهل في السماح لأولادهم بالذهاب إلى الدير, لكن الراهب الحقيقي يشعر أنه لا يميل إلى كثرة معرفة أخبار أسرته؛ لأنه بالسكون تخلصون, بالهدوء والطمأنينة تكون قوتكم؛ فالراهب مطمئن من جهة أهله أنهم في أيدي الله, بمعنى أنه إذا سلَّم الإنسان أحدًا في يد ربنا فالحقيقة أنه يُحرج ربنا.. لماذا؟ لأنه يقول أنا كنت أحمل هَمْ هؤلاء الناس, فأنا سلَّمتهم لك أنت يا رب وأُصلى إليك وأنت تتصرف, وبالتالي يُحرِجه. لأنه ألقى عليه بالمسئولية؛ فالله يقدر أن يشتغل أكثر من الراهب إذا اهتم بهم هو شخصيًا وتابعهم. طبعًا نحن لا نأخذ شخصًا في الرهبنة يكون هو العائل لأسرته وهو الذي يصرف عليها, وإذا كانت راهبة ليس لها مَن يخدم أسرتها نهائيًا؛ نكلف نحن إحدى المكرسات أو نتولى نحن ككنيسة الاهتمام بالشخصية المفروض أن تعتني بها الراهبة, فهذا واجب الكنيسة.

يجب على الراهب ألا يقلق ولا يحمل همًا. بالرجوع إلى أنفسكم , بالرجوع إلى اللَّه , بالرجوع إلى القلاية والسكون تخلصون. لذلك قال القديس مقاريوس الكبير للإخوة الذين كانوا معه: [فروا يا إخوة فقال الإخوة: أيها الأب كيف نهرب أكثر من مجيئنا إلى البرية؟ فوضع يده على فمه وقال: من هذا فرو(2) وفي الحال فر كل واحد إلى قلايته وصمت].

الراهب عندما يلجأ إلى قلايته يشعر أنه قد دخل إلى بر الأمان, إلى سفينة النجاة, بالهروب إلى القلاية؛ فالراهب ينبغى ألا يطيل الوقت خارج القلاية ويكون مثل الطفل المحروم من حضن أمه, يرجع بسرعة لكي يرمى بنفسه في أحضان ربنا؛ لأن القلاية هي باب السماء بالنسبة للراهب, والسُلَّم إلى الفردوس. ولكن من الممكن أن يجلس الراهب داخل القلاية وداخلها براكين وقنابل تتفجر؛ لأن الرجوع إلى القلاية بدون السكون يصبح مثل عدمه.

"بِالرُّجُوعِ وَالسُّكُونِ تَخْلُصُونَ". تخلصون من المشاكل, ومن أخبار العالم, ومن العثرات التي تأتى بسبب الخلطة مع الناس. تخلصون من ضعفاتكم التي لم تستطيعوا أن تخلصوا منها بسبب حالة الانفلات؛ لأن الإنسان لم يجد وقتًا كافيًا ليراجع فيه نفسه.

 الذي يقلق على أخبار الدير ويلف شرقًا وغربًا ويمينًا ويسارًا, يجب أن يضع في ذهنه هذه العبارة "بِالْهُدُوءِ وَالطُّمَأْنِينَةِ تَكُونُ قُوَّتُكُمْ", فيتعامل مع الأمور بهدوء دون عنف؛ فالراهب يميل إلى الهدوء ويحل مشاكله بطريقة هادئة.

أحيانًا ينتاب الراهب أو الراهبة نوع من الشك في أن أحدًا سيتكلم عليه -وخصوصًا في المجتمع المغلق- ويظن أن ذلك سيشوه صورته في الدير أو عند الأب رئيس الدير, ولكن "بِالْهُدُوءِ وَالطُّمَأْنِينَةِ تَكُونُ قُوَّتُكُمْ", الطمأنينة تتضمن الثقة في عناية ربنا والثقة في أن "الرَّبُّ يُقَاتِلُ عَنْكُمْ وَأَنْتُمْ تَصْمُتُونَ" (خر 14 : 14). فالذي لديه إيمان وثقة في الله يثق أن الله سوف يدافع عنه وحتى إذا أثار أحد حوله بلبلة فالله قادر أن ينهيها, إذا جاءت مناسبة ليهدئ الأمور ممكن أن يهدِّئها. وإذا جاءت مناسبة أن يصحح المفاهيم ممكن أن يصححها, ولكن يعمل ذلك وهو مطمئن وغير قلق.

إذا تكلم عليه أحد يقول "لَيْسَ التِّلْمِيذُ أَفْضَلَ مِنْ مُعَلِّمِهِ" (لو 6 : 40), والسيد المسيح تكلموا عليه كثيرًا, لو أساء إليه أحد يعتبر هذه الإساءة جزءًا من شركة الآلام مع السيد المسيح. هل نريد أن ندخل الملكوت بدون أي متاعب؟!

الفرح بالمحقرة

يقولون عن الرهبان إنهم ملائكة أرضيون أو بشر سمائيون ولكن إذا كانت الحساسية الشديدة والذات تعمل فأين حياة المسكنة والاتضاع "طُوبَى لِلْمَسَاكِينِ بِالرُّوحِ لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ" (مت 5: 3) ينبغي أن تكون المسكنة بالروح هي إحدى الفضائل التي يقتنيها الراهب في حياة الرهبنة, وليس في الرهبنة أفضل من أن يلقى الراهب بالملامة على نفسه في كل أمر ويفرح بالمحقرة. هذا الكلام مكتوب في كتاب بستان الرهبان (فهل هو مكتوب لكي يوضع في برواز أو لكي يوضع فوق الرف أم لكي يُعاش؟) أين الإنسان الذي يفرح بالمحقرة؟

والراهب لابد أن يهرب من المديح؛ لأنه يخاف من السبح الباطل. لكن الراهب الذي يضع سلامه في أفواه الناس يعيش طوال عمره قلقًا ومتعَبًا, بينما "لَيْسَ مَنْ مَدَحَ نَفْسَهُ هُوَ الْمُزَكَّى، بَلْ مَنْ يَمْدَحُهُ الرَّبُّ" (2كو 10: 18) والكتاب المقدس يقول: "وَيْلٌ لَكُمْ إِذَا قَالَ فِيكُمْ جَمِيعُ النَّاسِ حَسَنًا" (لو6: 26). لذلك في الجزء الآخر الذي ذكرناه من سفر إشعياء النبي "لأَنَّكُمْ قُلْتُمْ: قَدْ عَقَدْنَا عَهْدًا مَعَ الْمَوْتِ وَصَنَعْنَا مِيثَاقًا مَعَ الْهَاوِيَةِ... لأَنَّنَا جَعَلْنَا الْكَذِبَ مَلْجَأَنَا وَبِالْغِشِّ اسْتَتَرْنَا". إنسان يريد مديح الناس لذلك يلجأ إلى الكذب؛ لكي يُخفى كل الأمور ويلجأ إلى الغش. وماذا سيستفيد من ذلك؟ ولماذا يهتم الإنسان برأي الناس فيه؟ هل الناس هم الذين سيدخلونه الملكوت؟ لكن الذي لا يتكل على الكذب والغش يقول "وَأَجْعَلُ الْحَقَّ خَيْطًا وَالْعَدْلَ مِطْمَارًا فَيَخْطُفُ الْبَرَدُ مَلْجَأَ الْكَذِبِ وَيَجْرُفُ الْمَاءُ السِّتَارَةَ" (إش 28: 15-17). الروح القدس يكتسح الرياء من حياة الإنسان, الذي يتكل على الكذب لكي يستطيع أن يحل أموره في وسط الدير سيتعب, والرهبنة مطلوب فيها حياة البساطة والبساطة ليس معناها العبط, لكنها عدم التعقيد, إنسان واضح, إنسان صريح لا يعرف اللف ولا الدوران ولا يعرف أن يسلك بالغش والكذب, لكن ما في قلبه على لسانه, "كَذَلِكَ يَجِبُ أنْ يَكُونَ الشَّمَامِسَةُ ذَوِى وَقَارٍ، لاَ ذَوِى لِسَانَيْنِ" (1تى3: 8). يقصد "باللسانين" الذي يمدح الناس أمامهم ويذمهم في غيابهم, وضع غير سليم.

 يا ليتنا نهتم بهذه النصيحة: "هكذا قال السيد الرب قدوس إسرائيل بِالرُّجُوعِ وَالسُّكُونِ تَخْلُصُونَ. بِالْهُدُوءِ وَالطُّمَأْنِينَةِ تَكُونُ قُوَّتُكُمْ", وليس فقط القوة بل يكون السلام الداخلى والفرح الروحي أيضًا, ما دامت توجد طمأنينة وهدوء. ربنا يعطينا نعمة أن نستمع إلى وصاياه.

 

أضف تعليق


كود امني
تحديث

تم التطوير بواسطة شركة ايجى مى دوت كوم
تصميم مواقع مصر - ايجى مى دوت كوم