الراهب والعلاقات الرهبانية

تعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجوم
 
المجموعة: مقالات لنيافة الانبا بيشوى الزيارات: 3451

                                                                                                                                                                                               

 الحياة الرهبانية
 بلا شك أن هدف الراهب من حياة الرهبنة هو أن يحيا في حياة المسكنة بالروح وحياة الغربة والموت عن العالم وحياة الكمال المسيحي بتنفيذ الوصايا، إلى جوار أنه يريد أن يحيا حياة التسبيح ويصير شريكًا للملائكة, مثلما نقول في القداس الإلهي [أعطيتَ الذين هم على الأرض تسبيح السيرافيم]... توجد ترتيلة تُقال عن القديس الأنبا أنطونيوس أقتبس المعنى الذي يقال فيها, يقول قرارها: "إنتَ سَميتْ.. بَشَرْ وبقيت.. زى ملايكة السما.. وللا ملاك.. سِبت سماك.. وبقيت بَشَر زينا" هذا ما يقوله الناس حاليًا في الكنيسة عن القديس الأنبا أنطونيوس؛ أي هل أنت تساميت حتى صرت مثل الملائكة أم أنت ملاك تركت السماء وصرت من البشر!! هو مجرد تأمل ولكن بلا شك أن مفهوم الناس ومفهوم الآباء والكنيسة عن الرهبنة هي أنها حياة ملائكية، يستعد فيها الإنسان لحياة الملكوت من الآن؛ لأن فيها انحلال من العالم... انحلال من الكل للارتباط بالواحد.


 ونريد أن نرى الآن علاقة الراهب بإخوته الرهبان في ضوء هذه المبادئ الروحية.
الراهب والعلاقات الرهبانية
من الأمور الغريبة التي نراها في بعض السلوكيات الرهبانية أن يتجه راهب إلى حياة الوحدة -وهذا هو المفروض؛ لأن كلمة "monaxoc" "موناخوس" تعنى متوحد أي إنسان يعيش حياة الوحدة- ولكن بينما يمارس حياة الغربة والوحدة مع إخوته الرهبان، نجده يفتح بابه وقلبه وأذنيه للعلمانيين؛ أي يمارس حياة الوحدة في علاقاته الرهبانية داخل الدير، لكن العلمانيين بالنسبة له ليس ممنوع عليهم الخلطة معه؛ لا يستقبل في قلايته أو مغارته رهبانًا لكن من الممكن أن يستقبل علمانيين. فما هو مفهوم هذه الوحدة داخل الدير؟ يقول: {أنا أمارس حياة الوحدة داخل الدير؛ لأبعِد عن أخبار الدير ومشاكله، أنا أريد أن أعيش في سلام في الدير ولا أريد أن يكون لي علاقات مع رهبان تجُرُّني إلى متاعب، لكن العلمانيين ليس لهم في سياسة الدير؛ فأستطيع أن أعيش في سلام حتى لو زاروني أو تعاملت معهم}.
طبعًا هذا الأسلوب هو أسلوب فاشل تمامًا ومرفوض شكلًا وموضوعًا؛ لأن القديسين يقولون: [غرباء نحن يا أخي فلنكن غرباء بالكمال]، فإذا أراد أحد أن يعيش حياة الغربة فينبغي أن تكون غربة حقيقة وليست مجرد تظاهر بالوحدة. أنا أقول على العكس، ينبغي أن يتزايد الإنسان في الغربة عن العلمانيين والخلطة بهم ويستمر في علاقاته مع الرهبان، وعندما يصل إلى كمال الغربة بالنسبة إلى زوار الدير وإلى أهله، حينئذ يبدأ يتغرب عن مجمع الشركة في الدير.
 وبما أننا نتكلم عن الراهب وعلاقاته بالرهبان فأحب في هذا المجال أن أوضح أن هناك أساليب عكسية تحدث ولا تتفق مع المنهج الآبائي الذي تسلمناه عن حياة الوحدة وحياة الغربة.
حياة الشركة هي البداية الناجحة

 بدايةً كما هو معروف يجب أن ينجح الراهب أولًا في حياة الشركة داخل الدير. وحياة الشركة داخل الدير تستدعى أن يقتنى الراهب الفضائل الروحية، فيعيش حياة المسكنة بالروح... لأن السيد المسيح قال: "طُوبَى لِلْمَسَاكِينِ بِالرُّوحِ لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ" (مت5: 3 ). فيقتنى فضيلة الاتضاع، وأيضًا يمارس الفضائل المسيحية الأخرى التي أهمها فضيلة المحبة، فيكتسب محبة الرهبان ويخدمهم، ويشعر الدير أن هذا الراهب قد خدم فيه كثيرًا وتعب كثيرًا في العمل... تعب في التعمير... أو في الزراعة... أو في أي خدمة تخص حياة الدير؛ فيشعر الدير أن وجود هذا الراهب ليس عبئًا على الدير, ويُطبق المبدأ الذي يقول "حَاجَاتِي وَحَاجَاتِ الَّذِينَ مَعِي خَدَمَتْهَا هَاتَانِ الْيَدَانِ" (أع 20 : 34) ويرفض مبدأ أن يعيش على خبز الصدقة؛ لأن هذا المبدأ إذا كبر عنده؛ سيلازمه حتى وهو متوحد بالبرية... يريد أن يلتمس الناسُ البركةَ من هذا الأب القديس، ويبدأ الشيطان يعاكسه بالمواهب الفائقة وأيضًا يعاكسه الناس بأنه رجل ينقل الجبال بصلواته، وأن الشياطين ترتعب منه؛ فيتقاطر عليه الزوار من كل حدبٍ وصوبٍ يحملون إليه النذور والبكور، لدرجة أن أحد الرهبان في أحد الأديرة بني عدة عمارات وكنائس وغيرها، من تبرعات الزائرين -له شخصيًا- وبنى ديرًا كاملًا خارج الدير وكنائس ومباني شاهقة، وإذا قيل له هذه الأشياء ملك الدير يقول لا، إنها ملكه وهو مسئول عنها. نجح بعض الرهبان في أن يستغلوا بساطة الناس وثقتهم في سير القديسين الذين يقرأون عنهم في بستان الرهبان وغيره، بطريقة لا تتفق أبدًا مع حياة الغربة ولا حياة المسكنة ولا حتى فضائل المحبة بل بالعكس... مثل هذا الراهب تصدر منه مشاكل مع الرُبيتة oikonomoc ومشاكل مع المسئولين في الدير، وإثارة الأصدقاء والأحباء ضد الدير لكي يعمل ما يهواه هو, بينما المفروض العكس, المفروض أن يشعر الدير بأن هذا الراهب الذي عاش فيه قد تعب كثيرًا، كل راهب يشعر أن له بركة وتذكار في قلايته من تعب هذا الأب قبل خروجه إلى الوحدة، بل وجدران الدير نفسها تشهد بتعبه وسهره.

 عمومًا ينبغي أن يشعر الراهب أنه جاء لكي يتغرب عن العالم والعلمانيين، وليس لكي يتغرب عن إخوته الرهبان، يجب أن يضع هذا في قلبه منذ البداية،هو يموت عن العالم لكي يعيش في عالم جديد الذي هو الدير، لكن لا يموت عن العالم لكي ينفر من مجمع الدير ويعتبر أن هؤلاء الرهبان أصحاب مشاكل ويفضل أن يتخلص منهم ويبتعد عنهم؛ ولا يُخفى عليكم أن فضيلة الاتضاع لن تُقتنى إلا من خلال احتمال متاعب قد يتعرض لها الراهب من الآخرين.

 أحيانًا يُخدع الإنسان من الشيطان، مثل ذلك الراهب الذي أوحى إليه الشيطان أنه من الممكن أن يتخلص من خطية الغضب التي يعانى منها، بخروجه إلى الوحدة، وبعد استئذان رئيس الدير بالخروج لأجل خلاص نفسه خرج وسكن في مغارة، وهناك وضع قلة الماء على مدخل الباب فانقلبت بفعل الهواء وسُكِبَ الماء منها فملأها مرة أخرى -والماء كان صعب الحصول عليه في تلك الأماكن- وتكرر الأمر عدة مرات؛ إلى أن غضب وأمسك بالقلة وطرحها على الأرض وكسرها, فاكتشف أنه قد ذهب إلى الوحدة ومعه طبيعة الغضب وشيطان الغضب، فعاد إلى الدير وطلب السماح واعتذر وقال: {هنا تُقتنى فضيلة الاحتمال وفضائل الصبر}.

 التطرف اليميني والتطرف اليساري
الآباء الشيوخ الذين عشنا معهم في الدير كانوا ينصحوننا نصيحة هامة جدًا وهي: أن الراهب من الممكن أن ينحرف إلى أحد تطرفين.. إما إلى كثرة الخلطة مع إخوته الرهبان بحيث يتحول إلى راهب من أتباع جلسة "المصطبة"، أو أن يسرع إلى الوحدة قبل أن يقتنى فضائل حياة الشركة في المجمع.
 أما الأسلوب السليم في حياة الرهبنة فهو أن يهتم جدًا بجلوسه في القلاية في حياة الوحدة والسكون من جانب، ثم يخرج من القلاية ويتعامل مع الرهبان بروح الاتضاع والحب فيختبر نفسه ويكتشف من خلال احتكاكه مع الرهبان مدى تطور ونمو حياته الروحية واقتناء الفضائل من خلال تعامله مع الرهبان من جانب آخر. كما أنه في تعامله مع الآباء الرهبان ممكن أن يقتنى أيضًا فضائل أخرى من خلال مشاهدته لفضائلهم الروحية، لأن هناك فرقًا بين أن يقرأ الإنسان عن الفضيلة وبين أن يتلامس معها على مستوى الواقع، فالتلامس مع الفضيلة على مستوى الواقع يجبر الإنسان إجبارًا على أن يطبقها عمليًا في حياته.
 فمثلًا التعامل مع إنسان مُحب، باذل، خدوم يُخْجِل الذي أمامه، كذلك التعامل مع إنسان متواضع، ينكر ذاته وينسب الفضل إلى غيره، وينسب إلى نفسه الجهل وعدم المعرفة -بينما هو يعرف الكثير من الأمور- يجعل من يتعامل معه يراجع نفسه بصورة قوية جدًا. بل وقد تكون مراجعته لنفسه في منتهى العنف مع أنها هادئة جدًا في مظهرها الخارجي. فمثلًا لو راهب مصاب بنوع من العُجْب والكبرياء والحديث عن النفس وحب المناصب, وتقابل مع راهب زاهد في المناصب وحب الظهور وينكر ذاته سيراجع نفسه ويقول: {أين أنا من الرهبنة؟ أنا لم أترهب بعد، لكنى قد رأيت رهبانًا بالحقيقة}. نعود إلى المبدأ الذي قاله الآباء الشيوخ: [إن القلاية هي المخبز الذي ُتخبز فيه العلاقة مع ربنا]، [القلاية هي المكان الذي يمتلئ فيه الإنسان من الروح القدس]، [القلاية هي المكان الذي يراجع فيه الإنسان نفسه ويمارس حياة التوبة والشركة مع اللَّه]... ثم يخرج من القلاية دون أن يشعر أنه قد انحدر من سماواته العليا إلى جحيم الأرض بل يخرج من القلاية لكي يطبق عمليًا ما قد اقتناه في حياة السكون، ويختبر هل سيستطيع أن يحفظ لسانه؟ هل سيستطيع أن يتعامل باتضاع؟ هل وَجَدَتْ المسكنة بالروح طريقًا حقيقيًا إلى قلبه؟ هل فضيلة الاحتمال موجودة عنده؟ هل مازال يسقط في خطية الإدانة؟
فلا يحزن من وجوده في المجمع ويقول في قلبه: بما أنني أدين غيري؛ فالأفضل أن أخرج إلى البرية الجوانية. بل الوضع السليم أن يقول ما دمت أسقط في الإدانة فأنا محتاج أن أجلس مع نفسي وأبكِّتها وأمارس سر التوبة والاعتراف. كذلك إذا كان يغضب فلا يقول أنا أهرب من المجمع كي لا أغضب، بل بغضبه هذا يكتشف أن هناك أمراضًا روحية ساكنة في داخله وتحتاج إلى علاج. مثلما نقول في مديحة الصوم الكبير: [خُد لك طبيب نافع لدواك.. واكشف له جرحك ببيان.. فهو يعطيك مرهم لشفاك.. توبة واعترافًا وغفران]. ومن هنا كانت أهمية وجود أب اعتراف مختبر للإنسان, خصوصًا إن كان مازال يجاهد ضد ضعفات معينة.
 الصلاة مثلًا: قد يصاب الراهب أحيانًا بالضجر في الصلاة؛ لأنه لا يعلم لماذا يصلى، لكن عندما يشعر أن له ضعفات، ممكن أن يكون للصلاة طعم معين. لا أقصد أن أشجّع على وجود ضعفات لكن أردت أن أوضّح أنه حتى هذه الضعفات, قد تكون سُلَّمًا يساعد الإنسان على أن يرتقى في حياة الصلاة، بمعنى أنه عندما يقول مثلًا مزمور "إِلَى مَتَى يَا رَبُّ تَنْسَانِي؟ إلى الانقضاء؟" (مز 13 (12) :1), "يَا رَبُّ لمَاذا كْثُرَ الذين يحزنونني " (مز 3 :1), "يَا رَبُّ لاَ تُبكتْنِي بِغَضَبِكَ" (مز 6 :1) "إِلَى مَتَى يَرْتَفِعُ عَدُوِّى عَلَيَّ!" (مز 13 (12) :2). يقول كل هذا وهو يشعر في داخله أن له ضعفات تحتاج إلى إصلاح، فالراهب الذي يحزن من وجود ضعفات له داخل حياة المجمع ويظن أن البعد أو ترك المجمع هو الحل, متى سيتعلم أن يصلح نفسه عن طريق الصلاة؟ إن لم تجد هذه الضعفات فرصتها لأن تظهر بدلًا من أن يصاب بالمجد الباطل والسُبح الباطل ويعتقد في نفسه أنه أصبح رئيس المتوحدين في البرية وهو في الحقيقة لم يبدأ الطريق الروحي بعد. لذلك فبعد أن يبدأ مثل هذا الراهب في حياة الوحدة لا يجد تعزيةً؛ فيبحث عن تعزيات من الناس, تعزيات عن طريق شعوره بأن الناس تتحدث عنه كقديس، صانع المعجزات، الذي جدد عصر الآباء، ويتهافتون عليه.
بل وصل الأمر إلى أن شخصًا قد يكون مطرودًا من دير -تحت الاختبار- ويأخذ مكانًا في الصحراء ويعمل ديرًا ويُلبِس نفسه زى راهب؛ والناس تتقاطر عليه من كل حدبٍ وصوبٍ ويختار لنفسه اسم قديس من القديسين أو الآباء السواح ويوهم الناس أن هذا القديس تحت أمره ورهن إشارته، وإذا أتاه شخص في طلب يقول له: {سأقول للقديس فُلان أن يقضى لك هذا الأمر} ويعتبر الناس جميعًا أن هذا الأب هو الوكالة لهذا القديس، ومندوب العناية الإلهية لاسم هذا القديس وبركاته. وليس فقط الرهبان بل أحيانًا نُفاجأ أن كاهنًا علمانيًا يكون لديه مخطوطة لسيرة من سير القديسين أو الشهداء أو الشهيدات... فيطلب من الأب مطران أو أسقف الأبروشية أن يدشن له أيقونة على اسم هذا القديس أو الشهيد، وبعد أن يدشنها له نُفاجأ أنه يُسمى نفسه القس فُلان خادم سيرة القديس فُلان ونسأله: {هل رُسمت على هذا القديس؟} يقول: {لا، ولكن وجدت مخطوطة بها سيرته}، وينشر المخطوطة في كتاب ونجده مملوءًا بالأخطاء اللاهوتية, مثل أن قديسة ترشم بالميرون أو ترشم بالزيت أو أن السيدة العذراء تظهر لها وترشم الناس بالميرون, وأمور لا تتفق إطلاقًا مع أسرار الكنيسة السبعة؛ وهكذا ينشر المخطوطة بكل ما بها من أخطاء دون أن يعرضها على أحد لمراجعتها، وهذا الأمر يسبب له دعاية ورحلات، وكل ما هنالك أيقونة دشنها الأب الأسقف أو الأب المطران، ولكنه (القس أو القمص) اعتبر أنه خادم سيرة القديس فُلان ومندوب العناية الإلهية وكأن هذا القديس (أو القديسة) قد أقامه راعيًا لسيرته ولأيقونته ولكتبه، ثم نجد كتبًا أخرى عن المعجزات التي تحدث من هذا القديس، وتحدث صراعات بين القس والمطران عندما يراجعه بخصوص ما يفعله من أخطاء وبخصوص الكتب التي يطبعها وتضطر رئاسة الكنيسة أن تتدخل لفض هذه المنازعات. كل هذا بسبب فكرة أن شخصًا يقيم نفسه كأنه مندوب العناية الإلهية لقديس أو قديسة.
 الوضع السليم بالنسبة للراهب الذي يسكن فترة في قلاية في الدير قبل خروجه للوحدة أن يشعر الجميع أن قلاية هذا الراهب بركة في الدير -دون أن يتكلم هو عن نفسه أو يسعى هو لذلك- لكن يقولون إن في هذه القلاية سكن أبونا فُلان المبارك عدة سنين قبل خروجه إلى الوحدة وهذه القلاية مباركة بسبب سكناه فيها فترة، هو سكن في قلوب الرهبان جميعًا قبل أن يخرج إلى المغارة، جدران الدير كلها تشهد بدموعه وصبره وصلواته واحتماله، كنائس الدير تشهد باتضاعه وروحانيته ومسكنته، الدير كله يتمنى يومًا من أيامه، ويتذكرونه بكل خير إن كان قد انتقل إلى السماء أو إن كان قد خرج إلى البرية، بركته على كل أحد وبركة كل أحد عليه.
إذًا كلًا من التطرفين ينبغي أن يتحاشاهما الراهب:

    التطرف الأول: كثرة الخلطة مع الرهبان وفقدان حياة السكون في القلاية.
    التطرف الثانى: العزلة من مجمع الشركة بحجة السكون والبعد عن الآخرين.

السلام بين الراهب والمجمع قبل الخروج للتوحد
 لا يمنع أنه قد يتدخل عدو الخير وتحدث احتكاكات في الدير بين الرهبان، فالراهب يقول لنفسه: {كم عدد الرهبان في الدير؟ خمسون راهبًا مثلًا! لو خسرت كل يوم راهبًا من الرهبان (نتيجة لتلك الاحتكاكات) فعلى مدى خمسين يومًا أي أقل من شهرين سأخسر الدير كله، أو لو كل أسبوع خسرت راهبًا من الرهبان فعلى مدى خمسين أسبوعًا أي حوالي اثني عشر شهرًا أكون قد خسرت الدير كله في سنة واحدة}, لو دير فيه مئة راهبٍ سيخسر الدير كله في سنتين فنقول له:]e `nrompi  (شى انرومبى) (إلى منتهى الأعوام) لأنه خسر الدير. يقول: {أبونا فُلان لا أحب التعامل معه لأنه إنسان سريع الغضب، أبونا فُلان لا أحب التعامل معه لأنه يحب أن يتكلم عن نفسه، وهذا لا أحب التعامل معه لأنه لا يحب أن يخدم الآخرين، أبونا فُلان لا أحب التعامل معه لأنه لا يعطينى فروض الاحترام الواجبة أثناء السلام قبل صلوات المجمع، أبونا فُلان لا أحب التعامل معه لأنه رُسِمَ قسيسًا قبلي وأخذ دوري، أبونا فُلان لا أحب التعامل معه لأنه يوم زيارة أسرتي هنا لم يعطها الاهتمام الكافي، أبونا فُلان لا أحب التعامل معه لأنه يتعاون كثيرًا مع رئيس الدير، وهذا لأنه رفض أن يعطيني استعارة من المكتبة لكتاب معين وقال هذا الكتاب لا يصلح للاستعارة}؛ كل فترة يرفض التعامل مع أحد الرهبان إلى أن يقرر مقاطعة جميع الرهبان.
 في ذات مرة أثناء سكنى في القلاية الخارجية في دير السريان (قبل الأسقفية) جاءني أب من الآباء المباركين الذي تربطني به صداقة قوية منذ دخولي الدير، وجلس يتناقش معي فحدث بيننا شد في المناقشة؛ فرجعت إليه بعدها مباشرة في قلايته وضربت له ميطانية metanoia واعتذرت له؛ فوجدته يمتدح تصرفي هذا؛ فقلت له: {يا أبونا لو كل يوم خسرت أحد الرهبان فسوف أخسر الدير كله}. في هذا الوقت كان قداسة البابا قد طلب منى أن أعمل قلاية خارج الدير لكي أسكن فيها، لكن هل أسكن في قلاية خارج الدير وليس هناك سلامًا بيني وبين الدير!!
وكيف يخدم رهبان الدير إنسانًا يعيش في الوحدة وهم يشعرون أنه عبءٌ عليهم وعالة!! إن لم يكن هو قد خدم الدير من قبل والرهبان يحبونه، فسيشعر هو وهم كذلك بأنه عبءٌ. أما هو فلكي لا يشعر أنه عالة، قد يختصر الطريق ويقول: {أنا لا أريد شيئًا من الدير، أصدقائي سيحضرون لي كل احتياجاتي}!! هنا وأتساءل: {هل أنت لم تعد راهبًا في هذا الدير؟!} يقول {أنا أصلى القداس في الدير} فأقول له: {بهذا الوضع تكون منتدبًا للصلاة في الدير، لكن إن لم تأكل من خبز هذا الدير فلا تكون بعد راهبًا فيه}.
فلابد إذًا من وجود السلام والمحبة بين الراهب والمجمع قبل خروجه إلى الوحدة.

التدرج في حياة الوحدة
ولابد أن حياة الوحدة تأتى بعد اقتناء فضائل المجمع، ثم التدرج في حياة الوحدة وليس الإسراع فيها، أي كيف يتدرج الإنسان في حياة الوحدة بطريقة تجعل الرهبان يشعرون أن هذا الراهب فعلًا تباركه كل نفسٍ في الدير وتطلب أيضًا صلواته. وحتى عندما يبدأ طريق الوحدة, فربما الدير يحتاج أن ينتفع من هذا الأب, لماذا لا يكون مرشدًا لآخرين من أبنائه أو إخوته الرهبان؟ وفي مقابل أن الدير يخدمه من الناحية الجسدية، وهو غير مُكلَّفٍ بعمل في الدير, فلماذا لا يُقَدِّم هو خدمة روحية للدير؟ مثلما يقول معلمنا بولس الرسول: "إِنْ كُنَّا نَحْنُ قَدْ زَرَعْنَا لَكُمُ الرُّوحِيَّاتِ أَفَعَظِيمٌ إِنْ حَصَدْنَا مِنْكُمُ الْجَسَدِيَّاتِ؟" (1كو 9 : 11)، أي يكون أبًا روحيًا يخدم الدير، يذهب إليه الرهبان بسماح من رئيس الدير أو من أسقف الدير (إن لم يكن أسقف الدير هو أب اعتراف جميع الرهبان) ويأخذ اعترافاتهم في مكان وحدته؛ فيستفيد منه الرهبان روحيًا، وفي نفس الوقت يخدمونه ويحضرون له الأكل والاحتياجات التي لا يقدر أن يعثر عليها وهو في الوحدة، وهو يعطيهم مشورة روحية أو إرشادًا روحيًا بسماح من رئيس الدير.
 بهذا نكون قد اهتممنا بعلاقات الرهبان ببعضهم البعض بتحقيق التوازن بين حياة الشركة وحياة الوحدة.

ليس أفضل من أن يلقى الإنسان بالملامة على نفسه
 ننتقل إلى بند آخر وهو كيف يحتفظ الراهب بالبعد عن سياسات الدير فيما هو يعيش في الدير بكل أحداثه؟
 أحد بنود هذا الأمر أنه إذا أراد أن يحكى عن مشاكله لأب اعترافه -وخاصةً إن كان أب اعترافه هو رئيس الدير- ممكن ألا يذكر اسم الشخص الذي يتحدث عنه، ويجب على أب الاعتراف أيضًا ألا يسأل (من الذي قال لك هذا الكلام؟) أو (من الذي فعل هذا التصرف؟) لأن الراهب يريد أن يبعد في اعترافه عن خطية الإدانة، ويريد أن يبعد عن الدخول في مشاكل مع الآخرين، فأحيانًا في الاعتراف يكون مضطرًا لذِكر بعض أمور حدثت معه، فالأفضل أن يعتبر أن هذا الاعتراف هو اعتراف بخطاياه هو وليس بخطايا الآخرين.
في ذات مرة أتى إلى قداسة البابا شنودة الثالث -وهو كان أب اعتراف وما زال لكثير من الرهبان- راهب لكي يعترف فأخذ يشكو من راهب آخر ومن تصرفاته معه، وفوجئ قداسة البابا أن طوال جلسة الاعتراف هذا الراهب يقص عليه أخطاء راهب آخر في الدير بكل أنواعها وتطوراتها. فقداسة البابا بأسلوبه المملوء من الذكاء وأحيانًا المرح في بعض المواقف قال له: {يا أبونا ممكن تسمح تنادى أبونا فلان؟ فقال: لماذا؟ قال له: لكي أقرأ له التحليل لأنه هو الذي اعترف وليس أنت.. لقد اعترفتَ بجميع خطاياه فيكون الباقي أن أقرأ له التحليل} وكان يقصد أن يوبخ هذا الراهب على أسلوبه في الاعتراف.
ففي الاعتراف يجب أن يتذكر الإنسان هذا المبدأ: أنه [ليس هناك أفضل من أن يلقى الإنسان بالملامة على نفسه في كل شيء], فإن غضب راهب عليك فَكِّر إنك أنت الذي تسببت في غضبه، وأنت ذاهب للاعتراف تقول: {ويحي أنا الشقيّ؛ لأني أعثرت أخي وأسقطته في الغضب}، وهذا كان منهج الآباء القديسين.

كيف يلقى الإنسان بالملامة على نفسه
 أحيانًا عندما يأتي إلىَّ اثنان مختلفان مع بعضهما -ليس بالضرورة رهبانًا بل ممكن أي أشخاص عاديين- وكل منهما يشكو ضد الآخر، فأقول لهما سأقترح عليكما اقتراحًا... ما رأيكما أن نعمل نفس هذه الجلسة وكل منكما يقول الأخطاء التي فعلها هو في حق الآخر بحيث أنه لا يتعب نفسه ويقول أخطاء الآخر؛ لأنه سيسمع بأذنيه الطرف الآخر وهو يقول: (أنا عملت فيه كذا كذا). وقلت لهما أن النتيجة ستكون واحدةً في النهاية، فبدلًا من أن كل طرف يقول أخطاء الآخر، سنعكس الاتجاه وكل واحد سيقول ماذا فعل هو في الآخر. قد يتساءل أحد {وما الفرق في ذلك، فالمُحصلة واحدة في النهاية ، وستسمع نفس القصص لكن بدلًا من أن تسمع هذه القصة من اليمين ستسمعها من اليسار والعكس بالعكس؟}, أقول إن الفرق هو في أن كل منهما سيكون قد أخذ فرصته في أن يلوم نفسه، والنقطة الثانية أن كل منهما لن يجرح مشاعر الآخر بل بالعكس سيكون نوعًا من الاعتذار، فسيشعر الطرف الآخر بالترضية، فتُحل المشكلة بسهولة وتصفى النفوس (أنا لا أتحدث هنا عن أشخاص إذا جلسوا وقيل لأحدهم لماذا فعلت كذا فينكر أنه فعل، بل أتحدث عن أشخاص لا يكذبون بل لا ينكر كل منهما ما قد فعله ولكن يبرر ما فعله هو بما فعله الطرف الآخر من خطأ).
فلو تعود الراهب أن يلقى بالملامة على نفسه سيستريح ويشعر بالسلام الداخلى, فإذا دخل قلايته وهو شاعر أن الآخر هو الذي أخطأ؛ ستكون القلاية آتونًا, ويفقد سلامه في القلاية, ولكن إذا دخل القلاية وهو يلقى بالملامة على نفسه؛ سيشعر بسلام داخلي ويطلب من اللَّه أن يساعده في أن يصلح أخطاءه.

العمل الداخلى للراهب
 توجد أحيانًا مشاكل لا تُحَّل إلا بالعمل الجواني، وأنتم تعلمون قصة الأخ الذي ذهب يشكو لرئيس الدير ويقول له: {لماذا أعمل ميطانية لأخي؛ وهو يرفض أن يسامحني} فقال له: {لأنك وأنت تعمل له الميطانية لم تبكت نفسك من الداخل ولم تشعر أنك أخطأت؛ فالروح القدس لم يحرك قلبه لكي يسامحك، لكن لو أنت فعلًا نادم من الداخل فالروح القدس سيشتغل داخله، ويحدث نوعًا من الكهرباء، مثل التلامس ما بين إحساسك أنت الداخلى بأن الروح القدس يوبخك، وما بين إحساسه هو الداخلى بأن الروح القدس يفتح قلبه لقبولك؛ فأنت لم توصل التيار الكهربائي لذلك لم يقبل هو اعتذارك}. إذن هناك مشاكل تُحل بالعمل الداخلى.
العمل الداخلى الذي أقصده إلى جوار لوم النفس هو اللجوء إلى الصلاة.
 أحيانًا يشعر الإنسان أنه أساء التصرف في أمر معين في الدير، وأنه أدخل نفسه في مشكلة صعب أن تُحَل والموضوع بدأ في التعقيد، فيجد الراهب مشكلة ليس لها حل, فالاعتذار أحيانًا يكون بدون نتيجة؛ فنحن شاهدنا -عمليًا وليس نظريًا- أن الراهب الذي يحاول أن يصلى بحرارة ويرسل من قلايته ملائكة السلامة أو عمل الروح القدس.. هذا الراهب الذي يجلس في قلايته يصلى صلاةً من القلب وبإيمان يكون مثل برج المراقبة في المطار الذي يقول للطائرات التي في الجو أية طائرة منهم تنزل وأين، وهو الذي يقول أيضًا للطيار الذي على الأرض استعد للإقلاع وتُقلِع من أي اتجاه، ومن أي ممر, أي أنه جالس في قلايته ويدير العالم كله, ليس بكبرياء لكن بروح الانسحاق، كأن أمامه مفاتيح يضغط عليها؛ يحل مشاكل ويحرك قلوب الناس، فيقول: {يا رب أنا أسأت التصرف وأنت تصلح، وأنا عاجز ولا أعرف ماذا أفعل. ممكن إذا ذهبت أعتذر المشكلة تكبر أكثر، أو إذا ذهبت أعاتب ممكن العتاب يُزيد المشكلة}، فيدخل إلى قلايته ليصلى لكن ليست الصلوات الروتينية والقوانين بل يقول: {يا رب أنت تحل هذا الموضوع, أنت تتكلم في قلب فُلان وفُلان وأنت تعمل ما تراه يا رب}، والعجيب أنه عندما يخرج من قلايته يجد العاصفة قد هدأت والأبواب تتفتح، ويجد نفس الأشخاص الذين لم يعرف كيف يفتح الطريق إليهم؛ هم أنفسهم الذين يأتون إليه أو يستقبلوه ببشاشة، وأن المواضيع قد بدأت تُحل {والمياه بدأت ترجع إلى مجاريها}.
كما سبق القول إن الإنسان لو شاعر بداخله أنه أخطأ فمن المؤكد أن ربنا سوف يعطى له نعمةً؛ لأنه سيلقى بالملامة على نفسه؛ فالرب سيتحدث في قلب الآخر أن يسامحه من كل قلبه.

دور عدو الخير ومواجهة محاربات الشيطان
 أكثر شيء يريد عدو الخير أن يفعله هو أن ينزع المحبة من بين الرهبان، ولذلك يلزمنا هنا أن نتوقف عند كلمات لابد أن يعيش بها الراهب ويُذكِّر نفسه بها باستمرار, وهي التي وردت في رسالة القديس بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس الأصحاح 13، فيقول "إِنْ كُنْتُ أَتَكَلَّمُ بِأَلْسِنَةِ النَّاسِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَلَكِنْ لَيْسَ لي مَحَبَّةٌ فَقَدْ صِرْتُ نُحَاسًا يَطِنُّ أَوْ صَنْجًا يَرِنُّ. وَإِنْ كَانَتْ لي نُبُوَّةٌ وَأَعْلَمُ جَمِيعَ الأَسْرَارِ وَكُلَّ عِلْمٍ وَإِنْ كَانَ لي كُلُّ الإِيمَانِ حَتَّى أَنْقُلَ الْجِبَالَ وَلَكِنْ لَيْسَ لي مَحَبَّةٌ فَلَسْتُ شَيْئًا. وَإِنْ أَطْعَمْتُ كُلَّ أَمْوَالِى وَإِنْ سَلَّمْتُ جَسَدِى حَتَّى أَحْتَرِقَ وَلَكِنْ لَيْسَ لي مَحَبَّةٌ فَلاَ أَنْتَفِعُ شَيْئًا" (1كو13: 1-3 )، ثم يكمل كلامه عن المحبة -ومفروض ابتداءً من الآية التالية توضع لافتة في قلاية كل راهب لأن هذا هو المنهج الذي لابد أن نتعامل به- "الْمَحَبَّةُ تَتَأَنَّى وَتَرْفُقُ. الْمَحَبَّةُ لاَ تَحْسِدُ. الْمَحَبَّةُ لاَ تَتَفَاخَرُ وَلاَ تَنْتَفِخُ. وَلاَ تُقَبِّحُ وَلاَ تَطْلُبُ مَا لِنَفْسِهَا وَلاَ تَحْتَدُّ وَلاَ تَظُنُّ السُّؤَ. وَلاَ تَفْرَحُ بِالإِثْمِ بَلْ تَفْرَحُ بِالْحَقِّ. وَتَحْتَمِلُ كُلَّ شَيْءٍ وَتُصَدِّقُ كُلَّ شَيْءٍ وَتَرْجُو كُلَّ شَيْءٍ وَتَصْبِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. اَلْمَحَبَّةُ لاَ تَسْقُطُ أَبَدًا" (1كو13: 4-8).
مثلًا الحسد بين الرهبان، أحيانًا يكون مشكلة كبيرة ويعانى منها رؤساء الأديرة معاناةً شديدةً جدًا. لماذا أبونا فُلان أخذ القلاية الفلانية، ولماذا الوظيفة الفلانية، لدرجة أن رئيس الدير قد يريد أن يضع راهبًا في وظيفة معينة وخائف من إعطائها له.. خائف من الحسد، أو يريد أن يعطى لأحد قلاية معينة لأنه محتاج إليها فعلًا، وشاعر بثقل من ردود فعل رهبان الدير، بينما الإنسان لو في قلبه محبة يجب أن يقول: {لو وضعوني في أي مكان في الدير حتى ولو في حجرة الخزين، فكتّر خيرهم، أنا غير مستحق لتراب هذا المكان}.
أيضًا "المحبة لا تقبح" هذه صفة هامة جدًا خاصةً للرهبان.

المحبة لا تظن السو
 كذلك "المحبة لا تظن السوء"، إذا دخل الراهب إلى قلايته تكون نارًا مشتعلة بسبب سوء الظن. يقول: {أبونا لم يُسَلِّم علىَّ حسنًا وسَلَم على فُلان أحسن منى} أو اليوم أبونا فُلان كان سائرًا وتظاهر بأنه لا يراني؛ فيصبر قليلًا ويقول ربما اليوم لم يرني سأرى غدًا؛ فيتدخل عدو الخير ولا يسلم عليه في الغد رغم أن أعينهما كانتا في أعين بعض فيقول الراهب {ما حاجتنا بعد إلى شهود؟ قد جدف} وممكن أن يكون سارحًا في الإلهيات أو في موضوع مهم لذلك لم يرد السلام أو قد يكون لم يره فعلًا, وهذا يحدث معي أنا شخصيًا أحيانًا، يكون شخص واقفًا أمامي وأنا مركز تفكيري في أمر معين ولا أنتبه إلى وجوده، والأكثر من ذلك أن أحيانًا شخص يكلمني وأنا لا أشعر أنه موجود، أنا أكلمكم عن نفسي وليس عن شخص في الخيال، وسبب ذلك أنى كنت أحب الهندسة الفراغية وهي أن تكون لدى الشخص قدرة على تخيل المنظر في الفضاء لكي يستطيع أن يحل المسألة، لقد عشتُ عشر سنوات في هذا الجو (خمس سنوات أدْرِس وخمس أُدَرِّس) فممكن أن تكون هذه نتيجة طبيعية، ففي مقابل هذا ممكن أن يكون شخص واقفًا أمامي وأنا لا أراه؛ لأني أرى الفضاء الخارجي. ممكن هذا يكون عيبًا ولا يصح والمفروض أن أقوم بتصحيح هذه النقطة، لكن أقصد أن أحيانًا يكون هذا بدون قصد؛ فالنقطة التي أريد أن أخرج بها من هذا الموضوع هي: لماذا تبنى تفكيرك وقراراتك على أساس ملاحظات فقط؟ بدلًا من ذلك ممكن أن تأخذ الموضوع بمحبة وتقول لهذا الأب: {هل يوجد شيء أغضبتُ قدسك فيه؟} فيقول: {لا أبدًا يا أبونا، أنت بركة} فتستريح وتنتهي المسألة، أي لا تبنى الأمور على أساس ملاحظات واستنتاجات وتُكَوِّن عداوة مع الناس، فالمحبة لا تظن السوء.
مثلًا قد ترى رئيس الدير ملامحه قد تغيرت من جهتك، ويكون الجالس معه قبلها أبونا فُلان، فتقول: {أنا عارف إن أبونا فُلان مدبر لي مكيدة وأغضب رئيس الدير منى، وطبعًا لو سألت رئيس الدير لأنه أب اعترافه لن يقول لي؛ لأن هذا سر اعتراف؛ فأنا سأتصرف مع هذا الأب}!! لماذا كل هذا الكلام فقد يكون رئيس الدير ملامحه متغيرة؛ لأنه سمع خبرًا سيّئًا أو راهب يمر بظروف مرضية صعبة وليس بسببك أنت، لماذا تقول إن أبانا أغضب نيافة الأنبا فُلان منى؟ لماذا تعطوا إبليس مكانًا؟ "لاَ تُعْطُوا إِبْلِيسَ مَكَانًا" (أف4: 27).
توجد قاعدة مريحة للراهب وهي كما يقول الآباء: [إذا كان هناك أمور فيها شك وليست يقين، توجه للخير (أي افتراض حُسن الظن وليس العكس)]، وهذا التدريب نافع جدًا للراهب، فربما الشخص الذي تظن أنه لا يريد أن يكلمك تكون أفكاره نقية ويصلى ويوجَد اتصال بينه وبين ربنا في هذا الوقت.
والآباء أيضًا يقولون: [أكثر شيء يريد عدو الخير أن يعمله هو أن ينزع المحبة من بين الرهبان] هذه العبارة مع أنها قصيرة إلا أنها تعتبر درة ثمينة؛ لأنها تعبر عن خلاصة خبرة هؤلاء الآباء، كرهبان أولًا، ثم كآباء مدبرين أو رؤساء أديرة أو كآباء اعتراف.
كيف سنحارب الشيطان؟ هل بنفس أسلحته؟ فالشيطان من ضمن أسلحته الكبرياء، فهل سنحاربه بالكبرياء؟ أم نغلبه بالتواضع؟ الذي سيبطل عمل الشيطان هو التواضع.
من ضمن أسلحة الشيطان أنه عدو -يكره ربنا- فهل سنحاربه بالعداوة؟ أم نحاربه بالمحبة؟.. المحبة هي التي ستكسر شوكته.
فإذا وجدت مثلًا راهبًا في حالة غضب وثورة عليك دون أن تعرف السبب.. ممكن في أثناء غضبه عليك أن تطلب معونة من اللَّه, وتصلى لكي يعطيك اللَّه بقوة الروح القدس تيارًا جارفًا من الحب؛ يستطيع أن يستوعب أخاك الراهب ويجذبه لطريق المحبة ويعطيه الراحة، "لأَنَّ مَحَبَّةَ اللَّه قَدِ انْسَكَبَتْ في قُلُوبِنَا بِالرُّوحِ الْقُدُسِ الْمُعْطَى لَنَا" (رو 5 : 5).
هناك راهب يكون مريحًا في التعامل معه.. مريحًا لإخوته الرهبان ومريحًا أيضًا لرئيس الدير، كل من يدخل إليه يجد راحةً، مثل واحة غنَّاء.
لذلك أقترح أن تُعمل لوحة وتوزع على الرهبان مكتوب عليها عبارات المحبة التي قرأناها من (1كو13)؛ لكي يراها الراهب أمامه ويتذكرها باستمرار، ولا مانع أيضًا معها من بعض العبارات الرهبانية مثل: [غرباء نحن يا أخي فلنكن غرباء بالكمال]، [الطاعة والمسكنة يخضعان الوحوش لنا] ومثل تلك العبارات الجميلة التي يحبها الرهبان؛ لأننا رأينا في حياتنا عمليًا كيف أن المحبة تستطيع أن تكسب الآخر وتحتويه.
من جهة "المحبة لا تظن السوء" فالنظرة البيضاء هي افتراض الجانب المضيء دائمًا، مثلما كان قداسة البابا شنودة -أطال الرب حياته- دائمًا ينصحنا قائلًا: [حاول أن تفترض الجانب المضيء للأمور طالما إنه لا يوجد لديك يقين عكس ذلك فتتحرر من سوء الظن].

المحبة تحتمل كل شيء
 ممكن راهب يقول: {أنا أحتمل كل شيء من أخى الراهب إلا شيئًا واحدًا لا أقدر على احتماله وهو أن يُشوه صورتي عند رئيس الدير... هذا الأمر لا أستطيع أن أحتمله، وإن حدث فسوف أتخذه لي عدوًا إلى مدى الدهور}، كلمة "إلا" هنا لا تمر عند ربنا؛ لأنه لا توجد خطية لا تغفر عند اللَّه إلا خطية التجديف على الروح القدس, وما هو التجديف على الروح القدس؟ التجديف على الروح القدس هو رفض عمل الروح القدس في حياة الإنسان، فلا تُغفر لأن الروح القدس هو الذي يقود الإنسان إلى التوبة.
 ممكن ذلك الراهب الذي يقول كلام في حقك عند رئيس الدير تحتويه أنت بمحبتك، فيذهب مرة أخرى ويقول له: {يا أبانا أنا لم أر في حياتى راهب لديه محبة مثل هذا الأب، أنا جئت وأدنته أمامك لكن لم أجد محبة في أحد أكثر منه}، وبذلك تنصلح الأمور وتقول {الأيام بيننا} أي مازال الطريق طويلًا، كل شيء ممكن ينصلح فـ"لاَ يَغْلِبَنَّكَ الشَّرُّ بَلِ اغْلِبِ الشَّرَّ بِالْخَيْرِ" (رو12: 21).

حياة الغربة في المجمع
 إذا أردت أن تمارس حياة الغربة وأنت تعيش في المجمع، فحياة الغربة في المجمع هي ألا تتلهف على سماع أخبار الآخرين، قبل أن تقول حياة الغربة هي في المغارة، تسأل نفسك أولًا: {هل أنا في المجمع مُت عن حب الاستطلاع؟ هل مُت عن حب سماع أخبار الآخرين؟} هل أنت مُت عن خطية الإدانة حتى ولو بالفكر التي تجعلك تزكى نفسك وتفرح بأن تسمع أخطاء غيرك بدلًا من أن تحزن عليها؟!!

حياة التسبيح
 أيضًا حياة التسبيح... تأكد أن فترة وجودك في مجمع الشركة هي فرصتك في أن تذوب في الليتورجية، ولا يجوز تسميتها "ليتورجية" إلا إذا كانت المجموعة تسبح مع بعضها البعض، لأن بناء الكلمة نفسها يعطى هذا المعنى ، فلابد أن تشعر أثناء وجودك في وسط مجمع يصلى أن هذا محفل للملائكة، فممكن أن تصلى وحدك وهذا شيء جميل، وممكن تسبح وحدك، ولكن حينما تدخل مجمع التسبيح لابد أن تعلم أن هذا محفل، والملائكة نفسها تشتهى أن تحضر فيه لذلك نقول: {السلام للكنيسة بيت الملائكة} فتذهب إلى مجمع التسبحة وأنت متهلل وتكاد تطير فرحًا؛ لأن هناك سوف تتقابل مع الملائكة وأرواح القديسين, لكن وأنت وحدك؛ حولك أجناد الشر الروحية في السماويات منفردة بك، لابد أن ينتبه كل راهب لهذه النقطة، فلو لم تكن تسلحت بالكامل أو بدرجة كافية ستجد نفسك مستهدفًا من أجناد الشر الروحية في السماويات.
 ولذلك في أحيانٍ كثيرة يأتي إلىَّ راهب ويقول: {أنا سأصلى التسبحة وحدي في القلاية} فأقول له: {عدو الخير سوف يعطى لك انطلاقة في التسبيح قوية جدًا في البداية, وبعد فترة سيقول لك: سبح وأنت في وضع نائم على مرقدك... سبح وقُل "أَنَا نَائِمَةٌ وَقَلْبِي مُسْتَيْقِظٌ" (نش 5 :2) مثل عروس النشيد}، وخطوة تتلو خطوة إلى أن يصل إلى الكسل التام، بينما وجودنا في مجمع التسبحة يسَخِّن وتدب فينا الحياة والحرارة الروحية.