كلمة قداسة البابا شنودة الثالث

تعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجوم
 
المجموعة: البابا كيرلس السادس الزيارات: 16704

P-POPKIRLOS-7فى الذكرى الأولى لنياحة البابا كيرلس السادس
لقد مضى عام على نياحة البابا كيرلس السادس , وليست ادرى كيف أمضى هذا العام على الآلاف والملايين من محبيه , الذين لم يكن فى استطاعتهم أن ينسوا بركاته كل يوم , والذين كان صعباً عليهم أن يحرموا من شخصيته ومحبته وصلواته وقداساته .

ونحن بعد هذا العام نقف لنلقى كلمة وفاء بسيطة , ومهما كانت هذه الكلمة , فلا يمكن أن تفى أو ترتفع إلى المقام العظيم الذى يجلس فيه البابا كيرلس السادس . 

إن البابا كيرلس , نيح الرب نفسه فى فردوس النعيم , أمضى حوالى 40 عاماً فى خدمة الكهنوت , وفى خلال تلك الفترة , حرص فى كل يوم أن يقيم القداس الإلهى .

لقد كان يحلو له أن يصلى جميع الصلوات , ويترنم بألحان التسبحة , ويصلى المزامير , ولا يوجد فى تاريخ الكنيسة كله إنسان مثل البابا كيرلس السادس , إستطاع أن يقيم مثل هذه القداسات , لقد حاولت ان احصى عدد القداسات التى أقامها فى حياته , فوجدت أنه صلى ما يزيد عن 12000 قداس ( بإستثناء الخمس سنين الخيرة التى مرض فيها ) وهذا أمر لم يحدث فى تاريخ أى بابا من باباوات الإسكندرية أو العالم أو الرهبان .

وكان يجد تعزية فى صلوات القداس , ولذة روحية فى صلوات التسبحة , وكل الذين يعرفونه شاهدوه ينزل من المقر الباباوى فى الثالثة صباحاً , ويصلى صلاة نصف الليل , ويرتل التسبحة بنفسه مع المرتلين فى الكنيسة , ثم يصلى القداس , ويخرج فى السادسة صباحاً قبل أن يصحو الناس .. كان عجيباً فى صلواته , وكانت الصلوات تتبعه فى كل مكان .

ومن محبته فى الصلاة إختار حياة الوحدة , فعاش متوحداً مدة طويلة , وتتلمذ على أكبر أستاذ كتب فى الوحدة فى تاريخ الرهبنة وهو القديس مار أسحق - لقد قرأت مئات الكتب النسكية , فلم أجد أعظم من كتابات مار أسحق عن حياة الوحدة والسكون .

ولقد كان البابا كيرلس يحب مار أسحق , ويقرأ كلماته ويحفظ الكثير منها , ونسخ بنفسه كتاب مار أسحق على ضوء شمعة فى مغارته وعلى لمبة من الغاز .

عاش فى وحدة فى مغارة قرب دير البراموس , يسهر الليالى فى قراءة أقوال الاباء , ويصلى فى الفجر ويقيم القداسات , وعاش فى طاحونة قرب مصر القديمة , ثم فى الكنيسة التى بناها بنفسه فى مصر القديمة , ولم يخرج من بابها إلا للضرورة القصوى , و‘ندما اعتلى كرسى مار مرقس , لم تتركه حياة الوحدة , بل كثيراً ما كان يذهب إلى دير مار مينا بصحراء مريوط .. وكان يريد أن يمتلئ من ثمار الوحدة لنفسه .

الوحدة كما تعلمها البابا كيرلس من مار أسحق , هى الإنسلاخ من الكل للإرتباط بالواحد .. لذلك كان كثير الصلوات , حتى فى اثناء وجوده وكلامه مع الناس .. كان صموتاً لا يتكلم كثيراً , لكى يعطى نفسه فرصة التأمل والصلاة , وكان أيضاً يعهد إلى الرب بمشاكلة , ويرى أن القداسات والصلوات هى التى تحل له المشاكل وليست المجهودات البشرية , وكلما كانت تحيط به الضيقات , يلجأ للوحدة والصلوات والقداسات , شاعراً أن معونة الرب هى أكبر من كل معونة بشرية , لقد اعطانا مثلاً كبيراً فى حياة التأمل والخدمة , مع أن جميعها ليس بالأمر الهين السهل , فقد كان يخدم الكنيسة بأقصى ما يستطيع , ومن جهة أخرى , يختلى بنفسه , ويأخذ من التأمل والوحدة على قدر ما تعطيه إمكانياته .

عاش كمرشد روحى للكثيرين فترة طويلة , وقبل أن يصير بابا الكرازة المرقسية كان ابا فى الإعتراف لمئات من طالبى إرشاده الروحى , وقد عرفت قداسته فى سنة 1948 م حينما كنت أتردد على كنيسته فى مصر القديمة , وإنتهى بى الأمر إلى أن سكنت هناك أتمتع بقداسته وصلواته ورعايته وإرشاده بقداساته وصلواته ورعايته وإرشاده فى ذلك الجو الجميل فى كنيسة مار مينا بمصر القديمة , كان كل زائر للكنيسة يذهب إلى القمص مينا المتوحد لكى يأخذ منه بركة وقوة وإيمان , وكنت فى زياراتى للدير فى وادى النطرون أرجع مباشرة إليه , فيسألنى عن الرهبان واحداً واحداً , لأنه يعرفهم باسمائهم , ويطمئن على كل واحد منهم , وكنا فى دير السريان نعتبر أنفسنا أبناء له , وكنا نذهب إليه فى أوقات متفرقة ونسترشد برأيه , وعندما ترك دير البراموس وذهب إلى دير النبا صموئيل , حيث عين رئيساً له , عمره وبنى القلالى المتهدمة فيه , كان محباً للأديرة , فرعى دير السريان , ودير البراموس , ودير الأنبا صموئيل , وبنى دير مار مينا , وبسط محبته على باقى الديرة .

كان البابا كيرلس رجلاً تتمثل فيه فضائل عديدة , فقد كان إنسانا بسيطاً هادئاً , وكان حكيماً عميقاً فى التفكير , كان يتميز أيضاً بالبكاء فى صلاته وفى قداساته , بل أننى أذكر أنه عندما وقعت القرعة الهيكلية على قداسته ليكون بطريركاً , جاء لزيارة وادى النطرون , وعندما اتى إلى دير السريان , طلب منى إلقاء كلمة للأب المختار للباباوية , فتكلمت قليلاً , وإذا به يمسك منديله ويمسح عينيه من الدموع , وتأثرت كثيراً ببكائة أمام جميع الناس .

كان طيب القلب , وإذا غضب أو تضايق , وظن الناس أنه فى ثورة كبيرة تجده للوقت يبتسم , أقل كلمة ترضيه وترجع الإبتسامة إلى وجهه.

كان الناس يعجبون من صفحة وهدوئه وطيبة قلبه , وكانت له ايتسامة رقيقة يشرق معها وجهه كله , ويشعر الناظر إلى عينية أنه امام إنسان بسيط وليس أمام شيخ فى حوالى العقد السابع من عمره , لذلك كان محبوباً من الكل وله شعبية كبيرة .. حتى أن ألاف الطلبة كانوا يأتون فى ايام الإمتحانات يلتمسون بركته وصلواته , إستطاع فى فترة بسيطة أن تكون له شعبية فوق العادة , فعندما تذهب إلى البطريركية تجدها مزدحمة بالناس .. الكل يأتون إليه طالبين الصلوات أو البركات أو حل المشكلات , كثيرون لم يأتوا إليه لكى يعطيهم آراء عميقة أو صلاة طويلة , وإنما يكفيهم أن يقول لهم كلمة : " إن شاء الهنا يحلها " وهذا يقنعهم أكثر من ألاف الآراء المقنعة .

لذلك عنما تنيح البابا , تعطلت الشوارع المحيطة بالبطريركية من كثرة الناس الذين اتو لألقاء النظرة الأخيرة عليه , عشرات الألوف سدوا كل الطرق حتى أن رجال البوليس يذلو مجهوداً كبيراً يشكرون عليه من السادسة صباحاً حتى الحادية عشرة مساءاً والوفود لا تنقطع , الكل يريد أن يأخذ بركة البابا الراحل , وكان يوم الصلاة على جثمانه الطاهر يوماً عجيباً فى إزدحام الناس .

كان أول بابا فى جيلنا الحاضر فتح بابه لكل إنسان , كل فرد كان يستطيع أن يجلس معه ويكلمه بلا مانع ولا عائق , وهكذا إستطاع بشعبيته وبمقابلته لكل واحد أن يقضى على فكرة حاشية البطريرك , لأن كل أنسان يستطيع أن يعطيه المعلومات اللازمة فى أذنه مباشرة , فيعرف حقائق الأمور بطريق مباشر وليس عن طريق آخر , ولذلك كان يعرف تفاصيل التفاصيل فى كنيستنا المقدسة .

لقد تميز بذاكرة قوية يندر أن يتمتع بها غيرة , ذاكرة تستطيع أن تلم بأشياء يعسر على عقل بشرى عادى أن يلم بها , فكان يعرف كل الخدام ومشاكلهم فى دقة عجيبة , ويذكر كل الذين يقابلونه بأسمائهم , ويسلم على الشخص فيسأله عن حاله بطريقه وثيقة ويشعره بأبوته وإهتمامه بشخصة وبأن له مركزاً خاصاً فى عقل الرجل وقلبه , وكان عجيباً فى هذه الذاكرة , وإهتمامه بكل واحد جعله لا يعطى راحة لجسدة وفكرة , ولذلك ما أن مرت عليه 8 سنوات فى البطريركية , إلا وتكاثرت عليه ألمراض , ولم يعد الجسد قوياً كما كان فى أول عهدة , فالنير الشديد الذى تحمله البابا كان عظيماً وسط تجارب متنوعة وضيقات كثيرة .. أمراض كان يحتملها فى صمت عجيب دون أن يشكو لأحد .. كان المرض يهزة هزات قد تقلق راحة الأطباء المعالجين لقداستة , ومع ذلك لم يتكلم .. وإذا سأله أحد عن صحته قال وهو يبتسم : " الحمد لربنا .. كويس " وكان يؤمن بأن الرب يستطيع ان يتدخل أكثر من الأطباء ويشفى أكثر من الدواء , فى فترات مرضه , كان يحرص أن يسمع القداس الإلهى , لذلك أمر أن توضع سماعة فى حجرته الهاصة تنقل إليه صلوات الكنيسة يومياً .

لم يكن يستخدم كتاباً فى قداساته وصلواته فى كافة المناسبات , لذلك كان يصلى من قلبه , وأعترف أنه يعتبر أستاذاً فى الطقوس الكنسية فى جيلنا الحاضر , وأنتم تعلمون أن طقوس الكنيسة تؤخذ بالتسليم , وكان خبيراً بالكنيسة وطقوسها خبرة عجيبة , وكان قوى الشخصية , وله هيبة عند كثيرين .. وكان وقاره يطغى على الذين يقابلونه كما تطغى عليهم محبته , كان قوى الإرادة عنيفاً متمسكاً فيما أعتنقه ولا يمكن أن يتزعزع , بل راسخا ثابتاً كأنه جبل من الجبال , لا تؤثر فيه ألحداث ولا المقاومات , وإنما يكفى أن يكون مقتنعاً بفكرته , وإستطاع أن ينجح فى كل الأمور التى أمسكتها يداه , وكل الذين وقفوا ضده فى طريقة لم ينجح منهم أحد , كان إنساناً جمع بين الوداعة والقوة , والبساطة والحكمة , والبكاء والحزم , جمع بين امور كثيرة قد يظن الناس أن بين بعضها والبعض الآخر شيئاً من التناقض .

كان البابا كيرلس رجل تعمير فى كل مكان حل فيه , ففى طاحونة الهواء فى مصر القديمة , بنى فيها حاجزاً ومذبحاً , ومهد المكان ليعد فيه , ففى الطاحونة الهواء فى مصر القديمة , بنى فيها حاجزاً ومذبحاً , ومهد المكان ليعد فيه كنيسة صغيرة لحياته الخاصة , وكان يقيم القداس يومياً , ويأتى إليه أحد الشمامسة فى الرابعة صباحاً فى ذلك المكان النائى لكى يشترك معه فى خدمة القداس , وهذا دليل على محبة الناس له .

وعندما ذهب إلى مصر القديمة , بنى هناك كنيسة وبيوتاً وعمر المكان , وأوجد هذه الفكرة الجميلة لرعاية الطلبة الجامعيين فى حضن الكنيسة , فالطالب يحضر القداس اليومى يكون تحت إشراف الراهب ورعايته ويأخذ أعترافه ويوجهه إلى طريق الرب , وتعميره لهذا المكان سبب تعمير المنطقة كلها فإننى أتذكر , عندما كنت ساكناً هناك كانت المنطقة كلها مزارع , وبإنشاء هذه الكنيسة , تشجع كل واحد وأشترى قطعة أرض وبناها سكناً لنفسه وعمر المكان , وصار هذا المكان يشع بالروحانية وله طابع خاص .

وعندما رسم بطريركا إهتم أيضاً بالتعمير , فبنى هذه الكاتدرائية الضخمة التى نقف فيها ألان , بنى الكلية الإكليريكية ومنزل الطلبة الملحق بها , وبنى المطبعة , ورمم الكنيسة المرقسية الكبرى , وبنى فى عهدة عشرات الكنائس الجديدة وبنى دير مار مينا فى صحراء مريوط , وإنتهى من بناء كنيسة متوسطة الحجم وقلالى للرهبان وإستراحة للضيوف , ووضع أساسا لكاتدرائية ضخمة , وكنت أراه بنفسى فى كنيسة مار مينا يقف وسط العمال ويشرف على البناء بنفسه , ويكاد يكون كل مكان من تخطيطه ومن رسمه وإرشاده كشخص خبير فى البناء , كان شعلة من النشاط لا يهدأ , ولا يعطى راحة لنفسه , وكان كثيرون ينصحونه بأن يستريح أو أن يخفف من العمل , ولكنه فى عمق مرضه كان يسأل عن الكنيسة وعن أخبارها , وهكذا قضى الفترة التى تصل إلى حوالى 12 سنة وكأنها جيل كبير مملوء بصالح الأعمال , وبالمفاهيم الصالحة .

ونشر الكرازة فى خارج القطر , سيكتب فى تاريخ الكنيسة القبطية أن أول كنيسة بنيت فى أستراليا وفى كندا وفى الولايات المتحدة والكويت ولبنان وغيرها كانت فى عهده .

كان رجلاً يشجع كل خادم يريد أن يخدم , ومحباً للعلم , وعندما كان راهباً فى دير البراموس , أصدر مجلة أسمها "ميناء الخلاص" , وفى عهد باباويته أنشأ فكرة المطبعة , وعندما يبنى لها مكان خاص وتؤدى رسالتها فى خدمة الكنيسة , سيذكر الجميع فضل البابا كيرلس فى إنشائها , ومهما تحدثنا عن حياة البابا كيرلس , لا نستطيع أن نحصر الأعمال التى قام بها .

لقد إستطاع أن يقيم أسسا راسخة لبعض المعانى والمفاهيم الكنسية , إنه أول بابا إهتم برسامة أساقفة لا مطارنة , مؤكداً هذه الوظيفة المعروفة من القوانين الكنسية والكتاب المقدس , فى عهد من سبقوه , كانت رتبة ألأسقفية قليلة , والكل مطارنة , أما البابا كيرلس , فقد قدم مفهوماً جديداً لكلمة أسقف .

كما قدم مفهوماً جديداً لتلميذ البابا , فإختار شباباً يتميز بالروحانية , والعلم , والخدمة , ليكونوا تلاميذ له , وكل الذين كانوا له تلاميذ له أصبحوا رهباناً .

ووضع نظاماً جديداً للرعاية فى الكنيسة وهو الأسقفيات المحددة , من قبل , كان يصعب على مطارنة الإيبارشيات الواسعة الإلمام بكل أطرافها , فجاء البابا كيرلس ووزع الأسقفيات على مناطق محددة حتى يتوفر لكل منطقة نصيب من الرعاية .

ومهما تحدثناً , فهناك نقطة أخرى لا ننساها , وهى الأعمال التى قام بها بعد نياحته , وهذا التعبير قد يبدوا غريباً , لقد أعد كل شئ لمشروعات عديدة , وربما تتاح لى الفرصة , بصلواته , أن أقوم بهذه المشروعات , ولكننى أشعر أنه هو الذى قام بها , يذكرنى هذا بقصة داود النبى الذى كان يعرف ان ابنه سليماتن غصن صغير , فأعد كل شئ لبناء الهيكل , وأكمل سليمان بناء الهيكل , وسمى هيكل سليمان , والفضل لداود , هكذا فعل البابا كيرلس الذى أعد كل شئ لمشروعاته العديدة تتم بمشيئة الرب بعد نياحته بمجهوده الخاص , وبإعداده , ويرجع الفضل إليه وحده أولاً وأخيراً , ولعل من بينها دير مار مينا الذى أحبه , وملك عليه عواطفه .

وكان يحب القديس مينا محبة ملأت عليه عواطفه , كان يجد لذه فى ذكر أسم مار مينا , كان بينه وبين مار مينا علاقة شخصية , يشعر أنه يتكلم عن شخص له به علاقة قوية ومحبة , فكثير من الكنائس صار فيها مذابح على أسم مار مينا وكنائس بنيت على أسم مار مينا , كان يتخذه شفيعاً له , ولذلك كان يود فى حياته أن يعيش فى هذا الدير طول عمره , لقد قرأت خطابات منه عندما كان القمص مينا المتوحد يطلب إعداد هذا الدير ليعيش فيه بقية أيام حياته .. وكان البابا كيرلس يحب القديسين والملائكة , وله بالقديسين عموما صلة صداقة , ونحن جميعاً من أبنائه الصغار , نشعر بمقدار الفراغ الكبير الذى تركه فى كنيستنا , ونرجو أن يذكرنا فى صلواته وشفاعته , فهو يستطيع أن يخدم الكنيسة فى مستقرة الحالى أكثر مما كان يخدمها فى الجسد.