الثمر الروحي

تعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجوم
 
المجموعة: مقالات لنيافة الانبا بيشوى الزيارات: 3097

                                                                                                                                                                                             
البداية
 كل مَن تأتى للرهبنة غالبًا ما يكون وراءها قصة كفاح كبيرة. ليس سهلًا أن يترك الإنسان العالم ويخرج إلى الرهبنة.. كفاح مع نفسه, لكي يأخذ هذا الطريق الملائكي ويتأكد من صدق نيته في السلوك في هذا الطريق, كفاح مع أسرته، وكفاح من أجل ترك الوظيفة والمسئوليات.. أحيانًا يكون مرتبطًا ببعض الخدمات في الكنيسة, وأحيانًا كفاح مع أب اعترافه؛ ليتأكد من صدق الدعوة ويطمئن ويوافق, وصلوات كثيرة.. قصص متنوعة من الكفاح يعيشها كل مَن ترك العالم واختار طريق الرهبنة.. ربما على مدى سنوات طويلة وأخذت صلوات كثيرة.. أحيانًا تستمر الصلاة حوالي سنة كاملة ليقتنع أب الاعتراف وسنة أخرى لتقتنع الأم.. ليس سهلًا أن يخرج الإنسان من العالم؛ لهذا فإنه لأمر مفرح وجميل جدًا أن نقدم للقديسة دميانة بعض الأخوات في عيدها, بعدما كافحن كل هذا الكفاح الكبير لتقدرن أن تعشن في هذا المكان ليصنعن ثمرة روحية مباركة بعيدًا عن عثرات العالم ومتاعبه. هناك مَن وصلن إلى الرهبنة بعد عناء وبعدما واجهتهن صعوبات كثيرة. نحن نكون سعداء دائمًا بكل من يقدمن حياتهن لحياة التكريس في الرهبنة كمقدمة للرهبنة ولبس الشكل الرهباني فيما بعد.



لماذا تركت الكل؟!
ولكن بعد كل هذا لابد أن يعرف الإنسان قيمة الرحلة الطويلة التي قطعها إلى عتبة باب الدير ويعرف قيمة اختياره لهذا الطريق ليصنع ثمرة روحية تفرح قلب ربنا؛ مثلما قال معلمنا بولس الرسول: "لأَنَّ أَحْشَاءَ الْقِدِّيسِينَ قَدِ اسْتَرَاحَتْ بِكَ أَيُّهَا الأَخُ" (فل1: 7) أمر مفرح لأحشاء القديسين. وكلما يعيش الإنسان في الدير يذكِّر نفسه بهذه الحقيقة, ويسأل نفسه "لماذا تركت العالم وأتيت إلى الدير؟ لماذا كسرت قلب أمي ومزقت قلب أبى؟"... هل بعد كل هذا أتيت لأجرى وأمرح في الدير أم لأصنع ثمرة روحية في هذا المكان؟!! كلما تأتى للإنسان فكرة بأن يتهاون أو يتساهل في حياته الروحية داخل الدير فليتذكر أنه ترك أسرته ولم يهتم بالاعتناء بهم, وترك كل الناس من أجل أن يصنع ثمرة في طريق ربنا. عندما قالوا له "أمك تحتاج إليك" قال لهم "ولكنني أريد أن تكون نفسي مكرسة للمسيح" وتقول الفتاة "أريد أن أكون عروسًا للمسيح". يقولون له "أبوك أولى بخدمتك" فيقول لهم "ربنا يتولاه, لكن أنا أريد أن أكون مخصصًا لأبى السماوي" أي يرد ردودًا شديدة ضد الأهل حينما يحاولون أن يعوقوا الإنسان في طريقه, شديدة بمعنى أنهم عندما يقولون "إننا نريد أن نفرح بكم" فنقول لهم "لا لن تفرحوا بنا في هذا العالم بل في الملكوت" لكن إن لم يفرحوا لا في الدنيا ولا في الملكوت فماذا يكون موقفنا وكيف سنغطى وجوهنا من الخجل؟! لذلك لابد أن يصنع الإنسان في الدير ثمرة روحية تفرح قلب الله؛ فلم يجبره أحد أن يأخذ طريق الرهبنة بل هو الذي اختاره بنفسه؛ فلابد أن يسلك في حياة تسمو فوق العالم بكثير.
 لذا فمن المزعج أن أسمع من يقول: "أنا حياتي الروحية قبل الرهبنة كانت أقوى!" فالرد البسيط: "لماذا إذًا تركت العالم؟!!" إن لم يعرف الإجابة, وإذا كان في العالم أقوى إذًا كان من الأفضل ألا يدخل إلى الرهبنة..
 الإنسان يهرب من العالم بمشاغله, بشروره, باهتماماته, بعثراته؛ ليعيش حياة نقية ويعيش كمال تنفيذ وصية الله. كان متضايقًا لأن الدنيا تعطله عن تنفيذ وصايا الإنجيل, بصورة تجعله يطمئن على أبديته وخلاص نفسه فانطلق إلى الدير. لا يريد أن يعطله شيء عن كمال تنفيذ الوصية, لا يريد أن يشترك شيء مع محبة الله في قلبه, لا يريد أي شيء يعطل نموه الروحي...

الله هو الهدف
حتى بعد أن يأتي الإنسان بهذه المشاعر القوية من الممكن أن ينشغل في الدير بأمور تنافس محبة ربنا!! من الممكن أن تكون هذه الأمور نوعًا من العمل يتعلق به قلبه, كرامة معينة يريد الوصول لها, شخصيات معينه في الدير يحب أن يستحوذ على اهتمامها... قد كانت والدتك في البيت مهتمة بك ومشغولة بك, ولكنك تركتها فلماذا تريد الآن أن تأخذ اهتمام الناس وتلفت نظرهم وتأخذ منهم مديحًا؟!
شيء جميل أن يسعى الإنسان لتكون بركته على كل أحد وبركة كل أحد عليه؛ فتكون علاقته حسنة مع الكل, يريح كل الموجودين, يخدمهم بمحبه, تكون له صورة الطاعة والوداعة والسلام, كل هذه أمور حسنة, لكن أنا لم أقصد هذه الناحية, بل أقصد ألا يتعلق أحد بأي أمور في قلبه لدرجة أنها تشغله عن ربنا. فلابد أن يكون الله هو هدفه الأساسي, بل هو هدفه الوحيد, وبعدها يتعامل مع الناس بمحبة واحترام ويكسب محبة الكل, وتكون بركته على كل أحد وبركة كل أحد عليه.
ليتنا في كل عمل نعمله في الدير نراجع أنفسنا [ماذا صنعنا مما يرضى الله وماذا صنعنا مما لا يرضى الله؟] هل في كل عمل أخذنا الخط الروحي أم هناك تيار معين بدأ يشدنا أو يجرفنا.. من الممكن أن ينجرف أحد في تيار مسك السيرة مثلًا؛ فيجد نفسه قد تعود على هذا الموضوع ولا يقدر أن يتخلص منه.. فلماذا إذًا هربنا من العالم؟!! لنبعد عن الناس ونتفرغ للصلاة, فمسك السيرة لا يخص حياة الرهبان, لقد هربنا من العالم لنهرب من جلسات مسك السيرة, أما في حياة الرهبنة فإن صرنا إلى ذلك لأضعنا كل ما فعلناه..

حياة الغربة في الرهبنة
 من أهم مبادئ الرهبنة حياة الغربة [غرباء نحن يا أخي فلنكن غرباء بالكمال] -كقول القديس برصنوفيوس. الإنسان الغريب ليس هو الذي {يكشر} في وجوه الناس ويظن أن هذه هي الغربة, ولكن هو الذي يعيش في وسط الناس ويغمرهم بمحبته, لكن قلبه يظل متعلقًا بمحبة السيد المسيح. أي يعيش في وسطهم, يعطيهم الكثير من الحب, لكن ما يشغل قلبه واهتمامه هو السيد المسيح, ويكون هو سبب غربته. أما مسك السيرة فليس من مؤهلات حياة الغربة طبعًا, لأن الإنسان الغريب عمن سيتحدث؟!
 أيضًا محبة الكرامة ليست من مؤهلات حياة الغربة, فالذي مات عن العالم لا يرتبك بمحبة المديح والكرامة ولا يضطرب من المحقرة أو المهانة؛ لأنه لو قام أحد بشتم الأموات لن يتضايقوا منه ولن يردوا عليه, وحتى لو مدحهم لن يفرحوا.. كذلك الراهب الحقيقي ميت داخليًا؛ فيتساوى عنده المديح والإهانة. إن وجدت راهبًا يتساوى عنده المدح مع الإهانة فاعرف أنه قد بدأ يسير في طريق الرهبنة سيرًا سليمًا.

اختبر نفسك
يا ليت كل راهب (أو راهبة) يختبر نفسه في هذه النقطة.. إن لم يشعر بفرق إن مُدح أو أُهين -ويكون مستريحًا داخليًا- يكون قد بدأ أن يضع قدميه على الطريق الحقيقي للرهبنة", مثلما حدث مع القديس الأنبا موسى الأسود عندما قال [حسنًا صنعوا بك يا أسود القلب واللون], وإذا كان غير ذلك يقول لنفسه: "لسه بدري عليك أنت لم تبدأ بعد في طريق الرهبنة.
 توجد درجة روحية أعلى من هذه وهي أن يفرح الراهب بالمحقرة ويحزن من المديح, وهناك درجة روحية أعلى من هذه وتلك وهي أن يشتهى المحقرة, لا يفرح بها فقط إذا جاءت بل ينتظرها ويتمناها ويحزن إن لم تأتِ. وهناك درجة روحية أعلى من كل هؤلاء وهي أن يشحذ المحقرة! ولكن لا يشحذها ليقال عنه إنه قديس. يبحث عن أي أمر ليجلب له محقرة ويصبح سعيدًا إن وجدها.
 فإذا كنا نحن ما زلنا نحزن من المحقرة ونفرح بالمديح, إذًا أين نحن من كل هذه الدرجات! أما من لا يفرح بالمحقرة بل يغضب بسببها يكون في مرحلة أقل من هذه الدرجات كلها.. يكون تحت الأرض, تحت الصفر وتحت تحت الصفر. فإذا كان يغضب بسبب المحقرة فماذا نقول؟!!
إن دخل أحد الدير وكان من النوع الذي تتساوى معه الكرامة والمحقرة, مثلًا كان خادمًا وديعًا في مدارس الأحد وبعد فترة ابتدأ أن يكون حساسًا وكرامته من الممكن أن تتعبه وهو بالدير.. فلابد أن يراجع نفسه دائمًا ويقول أين الأخ فلان الذي كان قديمًا يتحمل الكثير في الخدمة لماذا في الدير لم يستمر هكذا؟!
ليتنا كلنا نضع أمامنا هذه المبادئ ونتابع تقدمنا في طريق المسكنة.. هل نتقدم أم نتأخر؟