البابا بنيامـين الأول - لمارى جرجس عبد الملاك

تقييم المستخدم: 5 / 5

تفعيل النجومتفعيل النجومتفعيل النجومتفعيل النجومتفعيل النجوم
 
المجموعة: مجلة رسالة الكنيسة - عدد يناير 2010 الزيارات: 5464

1copyfl1نشـأته
نشأ البابا بنيامين فى أسرة اشتهرت بعظم ثروتها وسعة نفوذها. وقد أجمع المؤرخين أنه ولد ببلدة برشوط التابعة للبحيرة.
وعندما كبر بنيامين وصار شاباً، زهد العالم ورغب فى الرهبنة والحياة النسكية، ولم يعرقل عزمه هذا حب والديه له ولا ثروة أسرته، فترك كل شئ ومضى إلى دير (قبريوس).

تتلمذ بنيامين على يد رئيس الدير، الشيخ الوقور تيموناس (ثاؤنا). فكان بنيامين يتسم بالورع والجدية فى تحصيل العلم، حتى فاق معلميه فى الفضيلة والعبادة النسكية.
وذات ليلة بينما كان فى خلوة روحية داخل الكنيسة، سمع صوتاً يناديه ويبشره بأنه سيصير راعياً كبيراً يرعى شعب المسيح. وعندما حكى هذا الأمر لرئيس الدير، حذره من الإعتداد بالذات، فإزداد تقشفاً حتى كان وجهه يسطع بنور النعمة.
ولما رأى رئيس الدير أن الراهب بنيامين ينمو فى النعمة والفضيلة، أخذه معه عند ذهابه للأسكندرية، وقدمه للبابا أندرونيكوس البطريرك الـ37.. فأعجب البابا بحياته واستبقاه عنده، حيث قال للأب تيموناس [ إن هذا الأخ ليس من نصيبك من الآن، بل إختاره الرب ليكون خادمه الأمين ].
وللوقت رسمه البابا قساً، ثم إختاره تلميذاً له، فكان أمين أسراره وموضع ثقته، وساعده فى تدبير أمور الكنيسة خاصة عندما إشتدت وطأة الإحتلال الفارسى على مصر، فازداد رفعة فى أعين البابا ورجال الكنيسة والشعب .. ولكنه لم يبق فى خدمة البابا زمناً طويلاً، لأن البابا تنيح بعد فترة وجيزة.
إنتخابه لرئاسة الكرسى المرقسى
لما إنتقل البابا أندرونيكوس إلى السماء، أوصى أن يكون القس بنيامين خلفاً له، فاحترمت الكنيسة إرادته. وإتفق إختياره لرئاسة الكرسى الرسولى مع إختيار الشعب له إذ كان محبوباً. فسيم بطريركاً فى 9 طوبة سنة 329ش. وكان فى وقت سيامته فى الخامسة والثلاثين من عمره. وكان الناس يلقون البابا فى كل مكان أفواجاً أينما سار لينالوا منه البركة.
قضى البابا بنيامين مدة خمس سنين فى ظل الفرس فى الأسكندرية، ثم شاهدهم بعد ذلك يبرحون الديار المصرية، ويغادرون الإسكندرية من بابها الشرقى، بعدما تغلب عليهم الإمبراطور هرقل.
الرؤيا العجيبة
بدأ الأنبا بنيامين زياراته بتكريس الأديرة المختلفة فى برية شهيت، ثم إنتهى إلى دير الأنبا مكارى الكبير أبى رهبان تلك البرية. وبينما هو يقيم الذبيحة الإلهية، إذا به يرى فى ركن من الهيكل، شيخاً وقوراً تشع منه الأنوار السماوية، فلم يستطيع أن يتبين شخصيته لبهاء منظره. ثم رأى سيرافيماً سمعه يقول له [ هذا هو الأنبا مكارى أبو الآباء، جاء ليشترك معك فى تكريس البيعة التى أقمتها بإسمه لأبنائه الرهبان الذين يحبهم ويحنو عليهم ].
فامتلأ قلب الأنبا بنيامين بالفرح الممتزج بالرهبة، وأخذ يتأمل الأنبا مكارى. وبينما هو شارد فى تأمل هذه الرؤيا العجيبة، سمع السيرافيم يقول له [ لو أن أولاده ساروا فى طريقه، ودأبوا على السعى نحو الكمال المسيحى الذى دأب على بلوغه، فسيسعدون معه فى مساكن النور. أما إن حادوا عن طريقه، فيكونوا غرباء عنه فى دار النعيم ].
وهنا إعترض الأنبا مكارى الكبير الحديث قائلاً : يا مولاى لا تختم حديثك بهذه الكلمات، ولا تحكم على أولادى بقسوة، لأنه إن بقى فى العنقود عنبة واحدة، فستحل عليها بركة الله وإنى لواثق تماماً أنه إن وجد الآب السماوى راهباً واحداً يتمم الناموس بأن يحب الإخوة، ويرفع عينيه نحو السماء مرة واحدة يومياً فسيرحم البقية من أجله ويقيهم العذاب الأبدى.
القديس الأنبا مكاريوس الكبير
وحين سمع البابا بنيامين هذه الكلمات تهلل بالروح إذ أدرك عمق المحبة التى يكنها الأنبا مكارى لأبناءه الرهبان، وهتف قائلاً [ مبارك أنت حقاً أيها العظيم مكارى، ومباركون هم أولادك السالكون فى طريقك لأنهم استحقوا أن يكونوا أولاداً لشفيع مقتدر مثلك. إنك مطوب حقاً إذ أنت أشبه بالسفينة التى تحمل الكثيرين إلى ميناء السلام والخلاص، فطوبى للبطن التى حملتك والثديين اللذين رضعتهما لأنك جميل بالنعمة التى فاضت عليك وأعلت قدرك بين الناس ].
ولما انتهى البابا الإسكندرى من تطويب الأنبا مكارى بدأ فى تكريس المذبح وإذا به يرى السيد المسيح له المجد يدهن المذبح بالميرون المقدس ويدهن بعده جدران الهيكل والكنيسة وعند ذاك امتلأت روحه نشوة سماوية .. وأخذ يردد قول المزمور "ما أحلى مساكنك يارب القوات .. قلبى وجسمى ابتهجا بالإله الحى .. مذابحك يا إله القوات ملكى وإلهى"(1).
ولقد انعكست النشوة الروحية التى غمرت الأنبا بنيامين على وجهه طيلة القداس الإلهى، وعند ذلك رأى الرهبان النور يشع من وجه الأنبا بنيامين فامتلأوا بدورهم بالفرح الروحى.
ولما انتهى القداس جلس البابا مع الرهبان يتبادلون الحديث عن عظائم الله وكأن كل هذه الاستعلانات الإلهية لم تكن كافية، فقد كان ابن حاكم مدينة نيقيوس يشكو من مرض عضال، وكان نائماً فى الكنيسة بعد تكريسها، وإذا به يصرخ صراخاً عالياً أزعج الجميع فاسرعوا إليه، وعندما تحول فزعهم إلى فرح إذ وجدوه قد شفى. فروى لهم أنه رأى فى حلم رجلاً طويلاً ذو لحية بيضاء تتدلى فوق صدره قد جاء إليه ووضع عليه يده فشفاه فى الحال، فتيقن الجميع أن الأنبا مكارى هو الذى ظهر له وشفاه.
ولما غربت الشـمس وانفرد كل راهب فى قلايته رأى البابا فى رؤى الليل

 (1)-(مز84: 1- 3).                       
ملاك الرب يقول له [ فليكن معلوماً لديك أن يوم انتقالك من هذا العالم سيكون موافقاً للتاريخ الذى كرست فيه بيعة القديس مكارى ]، وعندها اختفى ملاك الرب من أمام عينيه.
فلما أصبح الصباح طلب البابا بنيامين من أغاثون سكرتيره أن يسجل كل ما رآه وسمعه ليذكّره هذا التسجيل بأعبائه الجسام قبل أن يتم الله وعده وينقله من هذا العالم.
اختفاء البابا بنيامين
عندما جاء (قيرش) وهو الذى عُرف بعد ذلك باسم (المقوقس) إلى الإسكندرية، فى خريف سنة 631م واستتب له الأمر فيها بصفته بطريركاً ملكياً من قِبل الدولة البيزنطية عينه الإمبراطور هرقل والياً على مصر فجمع بين يديه السلطتين الدينية والمدنية، وأصبح ذو سلطان مطلق على البلاد المصرية.     
وفى هذه الأثناء رأى البابا بنيامين فى حلم هاتفاً ينذره بالهرب من أمام المقوقس الذى شهد حرباً كبيرة على الأقباط فى عقيدتهم فأخذ البابا فى تدبير أمور الكنيسة وجمع رجال الإكليروس وحدثهم على الثبات على عقيدتهم حتى يأتيهم الموت. وكتب إلى سائر الأساقفة الأرثوذكسيين يأمرهم بالاختفاء فى الجبال والصحارى إلى أن يرفع الله عنهم هذه المحنة، وأنبأهم بأن البلاد سيحل فيها البلاء وسيلقون الظلم.
بعد أن أعد البابا عدته سار من الإسكندرية أثناء الظلام لا يصحبه إلا رفيقان، وخرج من الباب الغربى قاصداً كنيسة القديس مينا العجائبى، فصلى بها .. وبعدما استراح قليلاً من تعب السفر مضى إلى جبل برنوج حتى أصبح قريباً من برية شيهيت بوادى النطرون، فوجد أديرتها خالية من الرهبان ، ثم سار إلى الأهرام، وبعدها إلى صعيد مصر حتى بلغ مدينة قوص واختفى فى دير صغير فى هذه المدينة ..
وأثناء اختفاء البابا بنيامين هجم العرب على مصر بقيادة عمرو بن العاص وقرّب عمرو منه كبار الأقباط، وكان من بينهم رجل اسمه شنوده، فأعلمه بخبر البطريرك وما كان من أمر هروبه واختفاءه، فطلب منه أن يأمر بعودته، فكتب بياناً وأرسله إلى جميع الجهات يدعو فيه البطريرك للحضور دون خوف.
ولما حضر البابا أكرمه عمرو وأظهر له الولاء وطلب منه أن يصلى لأجله حتى إذا رجع منتصراً من حروبه الأخرى سيجيب على كل ما يطلبه منه، فدعا له البطريرك وتم له ما أراد فى دعاه ..
ثم عُزل البطريرك الذى أقامه هرقل، ورجع البابا بنيامين إلى مركزه بكل إكرام. وهكذا عاد البابا بعد غياب ثلاثة عشر سنة منها عشر سنوات فى عهد بطريرك، وثلاث سنوات قبل أن يأتى المسلمين إلى الإسكندرية.
أعطى عمر الكنائس التى إغتصبها الروم إلى البابا بنيامين، ثم أخذ البابا فى جذب الذين أضلهم هرقل، وظهر الأرثوذكسيين الذين كانوا مختفيين حسب مشورة بطريركهم.
إهتم البابا بنيامين بالأديرة التى خرّبها الفرس أثناء تملّكهم مصر. فرمم عمارات أديرة برية شيهيت، فبنى دير الأنبا بيشوى وأعاد إليه رهبانه.
نياحته
لحق بالبابا بنيامين فى نهاية حياته مرض فى رجليه إستمر يلاحقه لمدة سنتين، حتى سأل الرب أن يخرجه من سجن هذا العالم الملئ بالأحزان، فاستجاب الله له ونال إكليل البر بعد أن أكمل سعيه، وكان ذلك فى الثامن من طوبة لعام 378ش الموافق الثالث من يناير سنة 662م، بعد أن أقام بطريركاً على الكرازة المرقسية مدة تسعة وثلاثين سنة لابساً إكليل التقوى، ودُفن مع إخوته البطاركة فى مدينة الإسكندرية ..
بركة صلاته تكون معنا آمين.