الحياة أظُهرت(1، 2) - للقمص جرجس توفيق

تعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجوم
 
المجموعة: مجلة رسالة الكنيسة - عدد يونيو 2011 الزيارات: 2484

2 20121029203726كان من المألوف أن يُرى يسوع سائراً فى الطرقات، من مدينة إلى مدينة، يحيط به تلاميذ، وجمع من أفراد الشعب. كان يجول يصنع خيراً، ويلقى تعاليمه الإلهية المثيرة على الجموع.
وفى صباح أحد الأيام قال لتلاميذه :
- لنعبر إلى نايين ..
وَهَمَّ الجميع بالصعود قاصدين المدينة.
 كانت نايين(3) مدينة جميلة تقع على بعد ستة أميال جنوب شرقى الناصرة على الحافة الشمالية لجبل حرمون الصغير. وكانت هذه المدينة تتميز بطراز معمارى خاص : فالمنازل أشبه بالقصور ذات شرفات تطل على حدائق غنّاء، تمتلئ بأشجار الكروم المتسلقة على الجدران وأشجار التين والزيتون. والمنازل ذات طلاء أبيض ثلجى، وأسطحها جمالونية الشكل مكسوة بالقرميد الأحمر الجميل.

وكانت طرقات المدينة مستقيمة يتوسطها ميدان متسع به نافورات ذات أعمدة رخامية تتدفق فيها المياه الصافية التى تنحدر فى قنوات ضيقة من قمة جبل حرمون المغطى بالجليد طوال العام. ويحيط بالمدينة سور مبنى من الحجارة الجيرية البيضاء.
كانت نايين جديرة بأن تسمى المدينة البيضاء ..
بدت المدينة البديعة من بعيد وهم يصعدون ويتطلعون إليها فى شغف. قال التلاميذ فى دهشة :
- ما أجمل المدينة ..

 (1)- تأمل فى معجزة إقامة ابن أرملة نايين (لو7: 11- 17).        
 (2)-(1يو1: 2).                 (2)- قاموس الكتاب المقدس.
فردوس على الأرض هى !
ونظر إليهم يسوع وعلّق قائلاً :
- فردوس بالحق هى ..
وأضاف فى أسى :
- لكن بغتتها ظلمة الموت !
واستمر يسوع فى سيره قاصداً المدينة يتبعه التلاميذ، وهم يتعجبون لكلماته.
وأخيراً دلف يسوع وتلاميذه والجمع من باب المدينة الخشبى الكبير المزين بنقوش محفورة تمثل نجمة داود، وسنابل القمح وأغصان الزيتون الدقيقة.
 وبوغت الزائرون بموكب مثير !
سكان المدينة خرجوا عن بكرة أبيهم وهم يحملون نعشاً لإنسان مات تواً ليشيعوه إلى مثواه الأخير وهم يبكون ويولولون، والمزمرين يتبعونهم وهم ينشدون أناشيد الحزن. ويتقدم الموكب امرأة تنتحب بصوت بح من كثرة النواح، وهى تتهافت على النعش لكأنما جزء من كيانها قد انتزع منها ووضع داخل الصندوق الخشبى، وهى تنوح قائلة :
- ولدى .. ولدى ..
أهكذا يا بتوئيل كنسمة تزول .. كبخار تضمحل ..
كنت كبرعم جديد يتفتح ..
أهكذا تذبل .. بهذه السرعة !
ثم تدنو إلى النعش، تريد أن تكشف وجه ابنها المسجى، والرجال يمنعونها، وهم يبكون لبكائها، ويشاركونها حزنها الأليم .. يبدو أنها امرأة محبوبة وصاحبة فضل على الجميع.
وتقدم الموكب الحزين مقترباً للخروج من نفس باب المدينة الذى دخل منه يسوع، ليتمموا مراسم الدفن فى القبور التى تقع خارج المدينة بحسب التقليد المتبع، بينما ظل يسوع يتأمل ويهمس فى أسى :
- نايين .. !
وأضاف بنفس الأسى هامساً :
- الفردوس الجميل ..
   أصيب بالقبح ..
   لقد بغته الموت .. !
ظل برهة يتطلع إلى الموكب الحزين الذى يتحرك فى بطء، والمرأة الباكية والجمع الذى يشاركها النحيب، وهم ينظرون إليها فى أسى عظيم ..
نظر التلاميذ فى دهشة إلى معلمهم، وهم يتساءلون فى صمت، بينما قال السيد :
- ها هى مخالب الموت تختطف وحيد الأرملة .. لتلوذ به إلى الجحيم !
وأضاف :
- البشرية تستنزف من العدو .. !
ونظر يسوع إلى بعيد .. بعيد كما إلى الصليب، قال :
- حقاً ..
 إن "أجرة الخطيئة هى موت"(1) .. !
كل هذا بينما الموكب الحزين يسترسل فى تقدمه إلى النهاية المحتومة، والمشيعون ينتحبون لنحيب الأرملة الثكلى التى فقدت وحيدها الحبيب بتوئيل بعد فقد رجلها، قال يسوع :
- المدينة المضيئة بغتتها ظلمة حالكة !  
والفردوس الجميل الذى كان يرفل بالحياة ..
 (1)-(رو6: 23).       
ساد عليه الموت !
وهمس فى عمق وهو يزفر زفرة طويلة :
- وأسـفاه !
وأضاف :
- ما أشبه المدينة الجميلة بالعالم الذى خلق جميلاً ..
ثم علّق قائلاً :
- الخطيئة شوهت كل ما هو جميل ..
   بل واغتالت الحياة !
كان التلاميذ ينظرون إلى المعلم فى دهش .. لماذا يقف هكذا متأملاً ؟
وينتظرون ماذا سيفعل .. عجباً إنه فى غاية الانفعال بالروح .. قال بطرس وهو يسكب همسه فى أذن يوحنا الواقف بجانبه :
- المعلم سيفعل شيئاً رهيباً !
ونظر يوحنا إلى وجه يسوع المتوهج بالحب دون أن يتكلم !
    وأخيراً تقدم المعلم بثبات وسرعة كأنه لمح البصر، حتى إنه سبق الرجال الأشداء الذين يحملون النعش، واستدار ليعترض النعش المتقدم بإصرار إلى باب المدينة، ثم مد يديه، ولمس النعش .. فقط لَمَسَهُ ! فتوقف الموكب بعنف فجأة حتى زج الناس بعضهم بعضاً!.. لكأنما قوة قد خرجت منه فأوقفت الجميع .. فنظروا فى دهشة شديدة إلى وجه المعلم الممتلئ بكل علامات الحياة ..
    ويا للعجب، فقد مد يسوع يده فرفع الغطاء الذى يحجب النور عن وجه الشاب، فظهر وجه الميت .. نظر إليه يسوع بتأثر : شاب فى مقتبل العمر، قد أطفأ الموت ما فيه من جمال.
    بوغتت الأم الثكلى بهذا العمل المدهش، فأسرعت إلى النعش تمطر ولدها دموعاً وقبلات، وهى تقول فى نحيب مهول :
- أخذك الموت يا ولدى ..
وأضافت بنفس النحيب :
- فليوارونى معك إلى التراب يا من تحبه نفسى ..
   فأستريح من آلام الثكل .. وآلام الترمل ..    
نظر إليها يسوع، فرأى الإنسانية المعذبة، ومشاعر الأمومة المتأججة تتحطم على صخرة الموت القاسية .. كانت تنتحب بلا امل، ولا تجد من يضمد جراحاتها أو يجفف دموعها ..
    وا أسفاه، البشرية كلها سقطت فى هوة الموت، وظلمته اكتنفت حياة الجميع، الشيطان ينطلق معربداً، ينشب مخالب الموت فى صدر الحياة ..
    التفت يسوع إلى المرأة .. قال :
- لا تبكى(1) .. يا امرأة .. !                                 
كانت كلمته فى قوتها، كافية لكى تبعث الأمل والرجاء فى قلوب الجميع، فصاحوا لكأنما هم فى صلاة جماعية مرفوعة إلى السماء قائلين :
- افعل شيئاً يبهجنا !
فأجاب يسوع :
- "أنا هو القيامة والحياة من آمن بى ولو مات فسيحيا"(2).
فقالوا بفم واحد :
- نؤمن ..
كان هو الحياة .. يقف فى مواجهة الموت .. وكان الموت يبهت، ويتلاشى، ويضمحل، بينما الحياة فى وجه يسوع تلمع وتتوهج لتهيمن على كل شئ فى هذا الوجود !
    وبوغت الجميع بصوت يسوع يحطم الصمت الرهيب، صمت الموت، حين قال موجهاً نداءه إلى الشاب الميت :
- أيها الشاب ..       
 (1)-(لو7: 13).                (2)-(يو11: 25).
وأضاف بقوة :
- لك أقول قم(1)
كان صوته العميق هو صوت السماء الرحبة الرحيمة يحتضن الأرض وكل من عليها، صوت الحياة الذى يدوى فى الكون، يبدد سطوة الموت، لكأنما النور الكونى يشمل كل ذرة فى الأرض التى أظلمت فيحيلها نوراً، ويبث فى ترابها المائت مقومات الحياة من جديد ..
    وعلى الفور اشتعل وجه الشاب الذى كانت تنتابه صفرة الموت اشتعل بالحياة، فأصبح كشعلة من النور أُشعلت من فوق، فور أن نطق يسوع بكلمات الحياة :
- .. لك أقول قم ..
بدأ الشاب يتحرك، ويجلس .. بدا جميلاً، ليس فيه عيب البتة لكأنما هو آدم الأول وقد عاد إلى فردوس النعيم !

السيد المسيح يوقف الجمع ليقيم ابن أرملة نايين
 (1)-(لو7: 14).            
    أقامه يسوع، وفك رباطاته، ثم دفعه إلى أمه التى احتضنت ولدها قائلة:
- ولدى .. ولدى            
عاش من جديد !
وأضافت، ونحيبها يتحول رويداً رويداً إلى نغمات الفرح :
- وا فرحتاه ..
   بتوئيل عاد إلى الحياة !
ثم جاءت وانطرحت عند قدمى يسوع تمطرهما قبلاً، وتفرقهما بدموع .. هى دموع جديدة .. بينما أقامها يسوع، وهو يوجه حديثه للشاب العائد إلى الحياة قائلاً :
- عش حياتك الجديدة للرب ..   
   أيها الشـاب.
ومضى يسوع ليكمل مسيرة الخلاص، وإعادة الحياة إلى الجسد البشرى من جديد. ولحق به تلاميذه بينما قالت الجموع :
- "قد قام فينا نبى عظيم وافتقد الله شعبه"(1)   
وهكذا عادت الحياة من جديد إلى نايين ..
عادت تصدح فيها موسيقى الفرح ..
فرح جديد .. ليس كأفراح الأرض الأولى ..
لكنه فرح له مذاقة الروح المتهلل .. فرح الارتباط بالسماء ..