من ذكريات بطرس - للقمص جرجس توفيق

تقييم المستخدم: 5 / 5

تفعيل النجومتفعيل النجومتفعيل النجومتفعيل النجومتفعيل النجوم
 
المجموعة: مجلة رسالة الكنيسة - عدد يونيو 2009 الزيارات: 3330

Christ Sermonأنا سمعان بن يونا المدعو من فم الرب "صفا"، الذى تفسيره بطرس(1)، كنت صياداً للسمك فى كفرناحوم، ودعانى الرب لأتبعه بعد معجزة صيد السمك الكثير قائلاً :
- "لا تخف ! من الآن تكون تصطاد الناس"(2).
فتبعته بكل جوارحى، وكنت كمن يغترف من نعمته ومعرفته وبركته، ولا أخفى عليك يا عزيزى القارئ إننى كنت أعلم من هو : إنه قدوس الله. ولكن أحياناً كانت تنتابنى شكوك، أو قل ضباب يُغلف رؤيتى نحوه، ذلك أن السيد كان يعلن ذاته أحياناً، وأحياناً أخرى يخفيها .. لحكمة عنده !

والحقيقة أن المعلم كان يخصنى بحب متميز، ورغم أنه رب كل العالم وحبيب كل نفس، إلا أن الشعور بالخصوصية فى الحب كان يتملكنى جداً فى أغلب الأحيان، حيث كان يدعونى لمرافقته فى أعماله الكبيرة التى تفوق العقل : مثل إقامة ابنة يايرس رئيس المجمع(3)، والشاب إبن الأرملة بقرية نايين(4)، وليعازر حبيبه – بعد أن مات ودفن(5).
والحق – أهمس فى أذنك أيها القارئ الحبيب- أننى كنت فخوراً جداً بهذا الاختيار الذى جعلنى من أخِصَّاء الرب المقربين إليه .. ليتك تجرب هذا مثلى أيها القارئ الحبيب !
فى مرة قال الرب وهو ينظر إلى ثلاثتنا : يعقوب، ويوحنا، وأنا :

 (1)-(يو1: 42).            (2)-(لو5: 10).        (3)-(لو8: 55).
 (4)-(لو7: 14).            (5)-(يو11).
- تعالوا ..
ثم أكمل حديثه :
- أنت يا بطرس، وأنت يا يعقوب، وأنت يا يوحنا .. اتبعونى ..
ثم همس قائلاً :
- هيا نصلى .. !
تهللت قلوبنا بالفرح المدهش، لأننا اختبرنا أية متع يمكننا أن نحياها عندما نسير معه، أو نسمع كلماته العظيمة، أو نرى آياته العجيبة، حقا كان الناس يقولون فى دهشة وذهول :
بطرس وصيد السمك الكثير
- "ما رأينا مثل هذا قـط"(1).   
لقد صحبنا السيد مرات كثيرة للصلاة : قبل أن يبدأ عملاً كان يصلى، وكان يصلى عندما يريد أن يناجى آباه السماوى، وكان يصلى ليعلمنا الصلاة.
- أكشف لك سراً – أيها القارئ الحبيب – لقد كانت صلاته تخطف القلب، وتسمو بالروح، وتضعنا فى معارج لو أنك اختبرتها لملأتك من روح الفرح والغبطة، ليس فرحاً من نوع أفراح الأرض، إنما هو فرح يخص الروح .. كيف أصف ؟ لا أعرف بالضبط لكننى أختصر فأقول إننا كنا نتهلل !
مضى يسوع يسرع الخطى .. هذه المرة، كمن يود أن يلحق بموعد حدده هو فى ذهنه، ونحن كنا نعرف دائماً أنه يريد أن يكشف لنا فى كل مرة مصدراً جديداً من مصادر السعادة الحقة والدهش الروحى ! لذلك كنا نتبعه، بل نهرول وراءه دون جدال يُضيِّع علينا هذه السعادة والدهش.
تلفّتَ ثلاثتنا إلى بعضنا البعض، كنا نتساءل دون أن نصرح بالسؤال :
- إلى أين نمضى هذه المرة ؟      
ونجيب ذواتنا دون مجرد الهمس :
- لابد إلى بستان أو جبل .. لنصلى فى هدوء ..
لكنه – فى هذه المرة – أطال السير!
لكن الحق أقول .. إن قلوبنا التهبت فينا عندما ظهرت لنا مشارف جبل تابور من بعيد ! هذا هو الجبل المقدس، الجبل الدسم(2) الذى طالما أخذنا إليه مراراً كثيرة لنقضى بعض الوقت فى التأمل والصلاة.
كان الجبل يبعد عن الناصرة عدة أميال، وكان يتميز بخصوبته وخضرته، وكانت تنمو على جوانبه أشجار السنديان والبطم والجوز(3)، كما تنمو النباتات المتباينة بغزارة، حتى أن جوانب الجبل تبدو من بعيد كبساط سندسى جميل أبدعته يد الله فى هذه البقعة المقدسة، ولو أنك أشـرفت حواليك من فوق قمته،
 (1)-(مر2: 12).        (2)-الهوس الكيهكى.    (3)- قاموس الكتاب المقدس.
السيد المسيح يصلى
لرأيت شماله بحر الجليل الذى كنا نمارس فيه مهنة الصيد، وإذا نظرت ناحية الجنوب منه ترى البحر الكبير بأمواجـه الأجاجة التى تشـعل القلب بمشاعر اللامحدود.
كنا ونحن نقترب إلى الجبل تختلج فى صدورنا أحاسيس بأن هناك أمر ما يريد أن يُعلمنَا به المُعلم هذه المرة ! إنه يتقدم بسرعة وبجدية فى نفس الوقت، فتوافق ذلك – فى أذهاننا – مع ما كان يحدثنا عنه قبل أن يطلب منا أن نأتى معه للصلاة. كان يحدثنا بكلمات متفردة فى الغرابة، لم نكن ندرك كنهها .. قال :
- "أن ابن الإنسان ينبغى أن يتألم كثيراً ويُرفض من الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة ويُقتل وبعد ثلاثة أيام يقوم"(1).      
أُصبنا جميعاً بالهلع وأخذتنا الرعدة وامتلأت قلوبنا بالحزن الشديد، لم نكن نتصور كيف سيتركنا إلى الموت، وهو رجاؤنا ونور حياتنا. لاحظ الرب ذلك وأراد أن يطلعنا على لمحة من مجده، وسر من أسرار ملكوته السماوى .. حتى يُفرح قلوبنا التى امتلأت بالحزن.
وصلنا أخيراً إلى السفح، ثم أخذنا نصعد رويداً رويداً، لكن الحق أقول لك – أيها القارئ الحبيب- إننى شعرت بسعادة غير عادية، سعادة أخذت كل كيانى، وأنا أسير وراء المعلم، أكثر من أى مرة سابقة كنا نذهب فيها معه لنصلى .. قل ما تشاء يا صديقى !
كانت أحاسيسى مخدرة نوعاً، ونبضات قلبى مسرعة قليلاً، كانت هناك فى العمق مشاعر سعادة من نوع آخر أحسست بها لأول مرة. وعندما وصلنا إلى نحو نصف المسافة إلى القمة، التفت إلينا المعلم مشفقاً، كانت ملامحه مملوءة بالحب، كان لكأنما يحتضن كل واحد منا، يبثه أرق مشاعر الحب، قال :
- هل تعبتم ؟!
 (1)-(مر8: 31).
الحق كنا نلهث، لكنه نظر إلينا فسكنت قلوبنا، وداخلتنا راحة وسلام يفوق العقل، ونحن نرتفع إلى فوق، لكأنما هو يحملنا على أجنحة عجيبة وهو يُصعدنا إلى قمة الجبل المقدس .. تابور !
وأخيراً .. أخيراً بلغنا قمة الجبل ..
قمة متسعة، وهدوء شامل، والطبيعة أخذت تشاركنا بكل ماهو روحى، نظرنا حوالينا، لكأنما كنا فى وسط السحاب، ومن هناك من علٍ، رأينا قطعان الغنم ترعى فى البرية بعيداً جداً، كانت كنقاط مضيئة متحركة، ونهر الأردن يبدو كخط أزرق متعرج بهيج، والأشجار تحيط بنا، والخضرة اليانعة والأزهار المتفتحة تنثر أريجها وشذاها .. إحساس يملأك بالطهر والنقاء، لكأنما نحن فى فردوس النعيم ..!
لم ينطق واحد منا بكلمة واحدة قط، أُخذت أرواحنا .. كنا ننظر فنتأمل كل هذا الجمال، وتتجاذب أرواحنا الحديث الخالد .. كانت أرواحنا تتواصل مع روح المعلم قائلة فى حب جم :
- "ما أعظم جودك يا الله الذى أدخرته لخائفيك"(1) ومحبيك !                                                 
وفجأة رفع المعلم عينيه إلى فوق نحو السماء .. كان يناجى الآب قائلاً :
- "أيها الآب قد أتت الساعة. مجد ابنك ليمجدك ابنك أيضاً"(2).       
خُطفت قلوبنا، ولُوِّعِت مشاعرنا، لقد كان يتكلم عن الآلام والصليب، وكنا نقف مقابله رافعين أعين قلوبنا إلى السماء .. لا ندرى ماذا نقول بينما هو مستمر فى مناجاة الآب قائلاً :
- "الآن مجدنى أنت أيها الآب عند ذاتك بالمجد الذى كان لى عندك قبل كون العالم"(3).                          
كثيراً ما كان المعلم يحدثنا عن مجده العتيد أن يكمله فى أورشليم على الصليب، لكن – فى هذه المرة- كان يتكلم بأكثر علانية وصراحة، لكأنما كان يصعد فى
 (1)-(مز31: 19).        (2)-(يو17: 1).        (3)-(يو17: 5).
نفس هذه اللحظة على صليب الجلجثة !
الحق يا قارئى الحبيب، إننى كلما تذكرت هذه اللحظات فاضت دموعى، وتملكتنى مشاعر لا أستطيع أن أصفها أو أتحدث عنها.
لكن حالاً ما داهمتنا أحداث جلل ! لقد انسكب النور الإلهى من السماء .. ملأ كل الجبل، بل ولفّه من كل ناحية، لم نعد نر الشمس التى كانت للحظات ترسل أشعتها فى قمة وقت الظهيرة.
كان المعلم نور من نور يتلاحم ويتوحد مع هذا النور الكونى العظيم الذى أخذ يسترسل علينا من علٍ ! ولم تكن قدما المعلم تلامسان أرض الجبل، كان هو مرتفعاً قليلاً، وتحت رجليه ما يشبه السحاب الأبيض الناصع .. صار وجهه يلمع أكثر من ضوء الشمس الذى بدا خافتاً باهتاً .. وملابسه بيضاء .. كان فى مجد لا يُدنى منه، كانت عيناه متسعتان تشخصان إلى أعلى – إلى الآب- فى جمال مهيب، وذراعاه مفتوحتان لكأنما تحتضن الكون كله : سماءه وأرضه، وجباله وكائناته جميعاً، كان يخاطب الآب قائلاً :
- "أنا أعطيتهم كلامك والعالم أبغضهم لأنهم ليسوا من العالم كما أنى لست من العالم. ولست أسأل أن تأخذهم من العالم بل أن تحفظهم من الشرير"(1).               
كنا نسمع صوت الابن يتردد فى أنحاء الفضاء المتسع كمن يتحدث باسم البشرية التى تنهض من عثرتها قائلاً :
- "وأنا قد أعطيتهم المجد الذى أعطيتنى ليكونوا واحداً كما أننا نحن واحد"(2).  
وضح أمامنا الآن أنه الإله الخالق الذى ينعطف نحو خليقته بعاطفة الحب الإلهى الذى لا يضارعه حب فى هذا الوجود !
والعجيب يا قارئى الحبيب أننا لم نشترك فى الحديث، كنا نتمتع فحسب لقد تطهرت قلوبنا وانجلت أرواحنا التى كان يعلوها الصدأ، وانفتحت أبصارنا على السماء ذاتها.. وعندما بوغتنا بكل هـذا الجمال وأردنا أن نتواصل معه لاحظنا
 (1)-(يو17: 14).                (2)-(يو17: 22).
أن السيد لم يكن وحده ! .. كان معه إثنان آخران : واحد عن يمينه، والآخر عن يساره، تعرفنا عليهما تلقائياً، لكأنما كانت تربطنا بهما روابط قديمة .. إنهما : موسى وإيليا !       
السيد المسيح أثناء تجليه على الجبل
تملكتنا مشاعر غبطة عجيبة، لقد توحّد الكون بالحب : الخالق قد أحب المخلوق .. تنازل إليه .. احتضنه، والمخلوق تطلع إلى مصدر سلامه بفرح يفوق العقل !
ولبثنا زمناً .. !
نتمتع بهذا المد الفوقانى والنور يتنزل علينا من علٍ .. إن الجبل قد اشتعل كله بالنار الإلهية المقدسة، والمعلم وحده مركز الضياء، والخليقة كلها ترنو بل تنجذب .. بل تنعطف إليه فى خشوع !
كان موسى وإيليا معه .. وأخذتنا الرجفة ونحن منطرحين على وجوهنا، كنا نفهم ما يقولون دون أن ندرى بأى لغة يتحدثون .. إن الموضوع هو : الصليب .. والقيامة.
- ربـاّه ..      
ما أمجد ما نرى .. وما نعى ..
ليت زماننا كله يُختصر فى هذه اللحظات أو ليتنا نلبث هكذا إلى ما لا نهاية ! لا تقل يا صديقى .. كم هو الزمن، وكيف هو الشعور، لقد صرنا خارج الزمان والمكان .. لقد صرنا فى قلب الأبدية !
جعلت أتأمل وأنا منطرح على وجهى مستعيداً أحداث التاريخ الطويل متذكراً سيناء والخروج العظيم وحضور الله فى وسط الشعب، وعيد المظال فخاطبت الرب دون أن أعى، قائلاً :
- يا معلم جيد أن نكون ههنا(1).      
ثم أضفت بتلقائية وبساطة :
- فلنصنع ثلاث مظال لك واحدة، ولموسى واحدة، ولإيليا واحدة(2).   
ويا لعجب ما رأيت فى نفس اللحظة التى نطقت فيها بهذه الكلمات .. جاءت سحابة عظيمة نيّرة .. وغطتنا، بل ولفّت الجبل كله برداء ناصع البياض !
حقاً لقد احتضنت السماء الأرض ! ثم سمعنا صوتاً من "المجد الأسنى"(3)، وتردد فى أنحاء "الجبل المقدس"(4)، قائلاً :
- "هذا هو ابنى الحبيب. له اسمعوا"(5).   
كان كخرير مياه كثيرة !
كان هو صوت الله القدير يملأ الأعماق كلها .. ارتجفت من أعماقى وأنا أتذكر على الفور ما قاله موسى "... ويقيم لك الرب إلهك نبياً من وسطك من اخوتك مثلى له تسمعون"(6)، وطفت إلى ذاكرتى بكل قوة كلمات الرب فى الآية الأخيرة من ملاخى "هأنذا أرسل إليكم إيليا النبى قبل مجئ يوم الرب العظيم والمخوف"(7)..
 (1)-(لو9: 33).             (2)-(لو9: 33).         (3)-(2بط1: 17).    
 (4)-(2بط1: 18).         (5)-(لو9: 35).         (6)-(تث18: 15).    
 (7)-(ملا4: 5).            
لقد جاء موسى وإيليا إذن ليعلنا تحقيق وعود الله للبشرية فى شخص يسوع الناصرى .. صرت أصيغ بسمعى، وبكل كيانى فأسمع كلمة "... له اسمعوا" تتردد فى الفضاء بلا نهاية !
ما أعجب التناغم المدهش بين وعود الله، والأحداث التى تتحرك أمام عينى، وأعيشها بكل ذرة فى كيانى !
وأخيراً .. قارئى الحبيب ..
انتهى كل شئ ..
ولبثنا مكاننا، لا نكاد نعى .. تأخذنا الرجفة والدهشة والذهول .. كنا لا نستطيع أن نتحرك، أو حتى نفيق ... ! لكن أخيراً جاء السيد .. سيد كل الدهور، ورب كل الأرباب فَلَمسَناَ .. فاستفقنا ثم قمنا .. ننحدر من لدن الله فوق الجبل المقدس .. كنا نسير وراء الرب .. لا ننبس ببنت شفة .. !
تــمـــت