حيــاة ملشيصادق

تعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجوم
 
المجموعة: شخصيات الكتاب المقدس الزيارات: 5325

حيــاة ملشيصادق كـاهن الـلــــه الــعلى
( اصدار دير السريان العامر بوادى النطرون )

مقدمة : تباينت الأقوال والآراء حول شخصية ملشيصادق المبهمة العجيبة .
فمن قائل أنه شخص حقيقى ، وانسان عادى ، كان ملكا على ساليم وكاهنا لله العلى . ومن قائل أنه أحد ظهورات السيد المسيح التى حدثت قبل التجسد المعجزى من العذراء مريم ، مثل ظهور السيد المسيح – الله الأبن – مع ملاكيه لإبراهيم عند بلوطات ممرا ( تك 18 ) ، ومثل ظهوره ليعقوب عند مخاضة يبوق ومباركته له ( تك 32 ) .


ونحاول هنا ، بقدر الإمكان ، أن نلقى بعض الضوء على هذه الشخصية العجيبة والعظيمة فى نفس الوقت .
ملشيصادق :
اسم سامى معناه " ملك الصدق أو ملك البر " وله قصة شيقة ، نأتى بها من أولها :
لما دنا موت يارد بن مهللئيل السادس من نسل آدم ، دعا ولده أخنوخ ، ومتوشالح بن أخنوخ ، ولامك بن متوشالح ، ونوح بن لامك ، وقال لهم : " أنا أعلم أن الله لا يترككم فى هذا الجبل ، فمن خرج منكم من هذا الجبل فليأخذ معه جسد أبينا آدم ، وهذه القرابين الثلاثة ، الذهب واللبان والمر "
وقال للامك : " أوص ابنك أن يجعل جسد آدم من بعد موتك إلى منطقة وسط الأرض ، ويكرس رجلا من أولاده ليخدم هناك ، ويكون ناسكا كل أيام حياته ، لا يتزوج ، ولا يهرق دما ، ولا يقرب قربانا من طير أو حيوان ، بل خبزا وخمرا ، لأن من هناك يكون خلاص آدم ، ويكون لباسه من جلود السباع ، ولا يحلق شعره ، ويكون كاهنا لله العلى "
تلك نبوة وإشارة إلى صلب رب المجد يسوع على جبل الجلجثة لخلاص آدم وبنيه ، ويقول التقليد أنه عند صلب السيد المسيح على جبل الجلجثة ، نزلت الدماء من جراحاته على الأرض ، فشققت الصخور ، ونزلت حتى وصلت إلى جسد آدم المدفون وطهرته ، وقول العائدون من القدس أنه ما زالت هذه الشقوق موجودة فى صخور جبل الجلجثة ، كما توجد فى الجبل كنيسة صغيرة تسمى " كنيسة آدم " وبها هيكل على أسم يوحنا المعمدان ، ويقول التقليد إن ملشيصادق أتى بجمجمة آدم ووضعها هنا تحت الجلجثة .

وبعد ذلك أراد الله أن يفنى العالم بالطوفان بسبب خطايا الناس التى تكاثرت ، وشرورهم التى تزايدت ، فأمر نوح الصديق أن يصنع فلكا يدخله هو ومن يؤمن بدعوته لينجو من الطوفان ، ولما أتم نوح الفلك ، تذكر وصية جده يارد ، فدخل هو وبنوه ، سام وحام ويافث ، إلى مغارة الكنوز ( سميت بمغارة الكنوز لوجود عظام القديسين بها ) .. وتباركوا من أجساد الآباء آدم وشيث وأنوش وقينان ومهللئيل ويارد ومتوشالح ولامك ، ثم حمل نوح جسد آدم ، وحمل أولاده القرابين ، فحمل سام الذهب ، وحمل حام المر ، وحمل يافث اللبان ، وخرجوا من مغارة الكنوز ، ووضعوها على الجبل المقدس ، وبدأوا يصلون ويبكون على مفارقة الفردوس وطرد جدهم آدم منه ، بعد ذلك ، حملوها إلى داخل السفينة بالطابق العلوى منها ، ووضع نوح جسد آدم على منبر من الخشب فى وسط الطابق العلوى وبجانبه القرابين ، وكان نوح يقف أمام الله مقابل الجسد كل يوم ، وكانت امرأته وأولاده ونساؤهم يقفون فى السفينة من ناحية الغرب ، ويقولن : " آمين يارب .. " وكانوا بعد الصلاة يجلسون فترة من الزمن يتأملون جسد آدم ، ويتذكرون الفردوس المفقود .
وبعد انتهاء الطوفان ، ورسو السفينة على جبل أراراط ( شمال ايران حاليا ) .. خرج منها نوح وجميع من معه ، وتركوا فيها جسد آدم داخل مقصورته ليكون محفوظا .
ولما قربت وفاة نوح البار ، استدعى أبنه سام سرا ، وقال له : " أخرج جسد آدم من السفينة ، وأيضا الثلاثة قرابين الذهب واللبان والمر ، ولا تدع أحدا يعلم ما أنت فاعله ، وخذ معك أيضا ملشيصادق ، وأمضيا به ، وأدفناه فى وسط الأرض " ، وأوصى ملشيصادق بأن لا يتخذ له إمرأة ، وليكن ناسكا لله كل أيام حياته ، لأن الله اختاره ليخدم قدامه ، ولا يبنى له بيتا على الأرض ، ولا يهرق دما من السباع ولا طائر ولا حيوان ، ولا بحلق شعره ، ويكون وحده كاهنا للـــه العلى
وبعد نياحة نوح البار بأربعين يوما ، قال سام لأخوته : " أبى أوصانى عند موته أن أمشى فى الأرض ، حتى أبلغ البحر وأبصر الأودية والأنهار ، ثم أرجع إليكم " .. وقال لفالج بن عابر : " أعطنى ابنك ملشيصادق ليكون لى عونا فى الطريق ،،،، ثم أخذ سام جسد آدم سرا وأخذ معه حفيده ملشيصادق وخرجا ، فظهر لهما ملاك الرب ليهديهما إلى المكان المعين لدفن جسد آدم ، ولم يزل يتقدمهما حتى انتهى بهما إلى وسط الأرض وأراهما المكان ، فلما جعلا جسد آدم عليه ، انفتح ذلك المكان من ذاته ، فوضعا الجسد فيه ودفناه ، واسم المكان الجلجلة ، وهو أيضا الأقرانيون ، وقال سام لملشيصادق : " أمكث أنت ههنا ، وكن كاهنا لله العلى ، فإنه قد أختارك لتخدمه ، وهوذا ملاك الرب ينزل إليك كل حين " ... وبعد أن زوده بالنصائح والوصايا اللازمة ، تركه ورجع إلى إخوته .
· فالج اسم عبرى معناه " قسمة أو أنقسام " وهو أحد أبنى عابر ( يقطان وفالج ) ، وقد سمى كذلك لأن فى أيامه قسمت الأرض وتفرق بنو نوح . ومن البنين الذين أنجبهم فالج بعد رعو ، ملشيصادق الذى نتكلم عنه ، فملشيصادق هو أبن فالج وشقيق رعو . وقد ذكر معلمنا لوقا الأنجيلى أسم فالج وعابر فى سلسلة أنساب السيد المسيح ( لو 3 : 35 ) .
· أما عابر : فهو أسم عبرى معناه " عبر أو يعبر " وهو أبن شالح بن أرفكشاد بن سام ، وإليه ينتسب العبرانيون ، كما أنه جد العرب ، ويسمونه " يعرب " .

فملشيصادق هو حفيد من حفدة سام ، فهو ملشيصادق بن فالج بن عابر ..... الخ و " سام هو أبو كل بنى عابر " ( تك 10 : 21 ) . ......
بعد أن أقام ملشيصادق فترة متعبدا فى الغابات المجاورة لجبل الجلجثة ، حيث دفن جسد جده الأول آدم ، سمع به ملوك تلك المناطق وأهلها ، فجاءوا إليه بهدايا وتقدمات كرجل الله ، ولما لم يقبلها ، بنوا بها هيكلا فوق قبر آدم ، ثم بنوا مدينة سموها شاليم ، أى " السلام " وجعلوه ملكا عليا ، بجانب أنه كاهن الله العلى ، وقد تحرف أسمها بعد ذلك إلى " أورشليم " أى " نور السلام " ويؤيد ذلك المؤرخ اليهودى " يوسيفوس " .
وملشيصادق هذا هو الذى بارك ابراهيم خليل الله عند رجوعه من كسرة كدرلعومر والملوك الذين معه .. " ... وملكيصادق ملك شاليم أخرج خبزا وخمرا وكان كاهنا لله العلى ، وباركه ( أى ابراهيم ) ، وقال : مبارك ابرآم من الله العلى ملك السموات والأرض ، ومبارك الله العلى الذى أسلم أعداءك فى يديك ، فأعطاه ( ابراهيم ) عشرا من كل شىء ( تك 14 : 18 – 20 ) .
وهو كان أكبر من ابراهيم حسب قول الرسول :
" ولكن الذى له نسب منهم ( من اللاويين ) قد عشر إبراهيم وبارك الذى له المواعيد ، وبدون كل مشاجرة الأصغر يبارك من الأكبر " ( عب 7 : 6 ، 7 ) .

تفسير بعض الآيات التى وردت عنه فى الرسالة إلى العبرانيين :
+ الآية : " بلا أب بلا أم بلا نسب " .... ( عب 7 : 3 )
والمعنى الحقيقى الذى قصده الرسول من هذه الآية ، هو أن كهنوت ملشيصادق لم يصل إليه من أبيه وسلفائه ، كما كان الأمر فى الكهنوت اللاوى الذى كان محصورا فى نسل لاوى ، أحد الأسباط ، وفى ذرية هارون بالذات الذى أقامه أخوه موسى هو وذريته لخدمة الكهنوت فى إسرائيل ، ومما يؤيد ذلك ، قول الرسول : " بلا نسب " أى بلا سلف كهنوتى خلفه ملشيصادق فى تلك الوظيفة السامية ، بل أتته من الله رأسا .
+ الآية الأخرى : " بلا بداءة أيام له ولانهاية حياة ، بل هو مشبه بأبن الله ، هذا يبقى كاهنا إلى الأبد " ( عب 7 : 3 )
والتفسير الصحيح لهذه الآية هو أن ملشيصادق لا بداءة أيام له ، ولا نهاية حياة فى الخدمة الكهنوتية ، كما كان الحال بالنسبة للكهنة اللاويين ، فإنهم كانوا يبدأون خدمتهم الكهنوتية فى سن الثلاثين وينتهون منها فى الخمسين " ( عد 4 : 3 ، 23 ، 43 ، 47 ) .
أما ملشيصادق ، فلم يكن كهنوته محدودا بهذا السن لبداية ونهاية الوظيفة ، بل هو مشبه بأبن الله الذى قيل عنه فى المزمور :
" أقسم الرب ولن يندم أنت هو الكاهن إلى الأبد ( مز 110 : 4 ) .
أما أن كهنوت ملشيصادق – بوصفه إنسانا – يبقى إلى الأبد ، فهذا يعنى أنه يبقى كاهنا إلى يوم وفاته ، لا يعزل ولا يجرد من كهنوته أثناء حياته بسبب تقدمه فى السن ، كما كان الحال مع الكهنة اللاويين .
وكثيرا ما وردت كلمة " إلى الأبد " فى الكتاب المقدس بمعنى " حتى نهاية الحياة " ونورد أمثلة لذلك :
· عندما أرادت حنة أم صموئيل ، أن تقدم ابنها – ابن الموعد – إلى الهيكل ، قالت لزوجها : " متى فطم الصبى ، آتى به ليتراءى أمام الرب ، ويقيم هناك إلى الأبد " ( 1 صم 1 : 22 ) ، أى ليقيم هناك إلى نهاية حياته .
· عندما رأى يوناثان بن شاول الملك أن أباه يضطهد داود ويريد قتله ، وكان يوناثان يحب داود كنفسه ، لذلك قطع معه عهد صداقة قائلا : " وأما الكلام الذى تكلمنا به أنا وأنت ، فهوذا الرب بينى وبينك إلى الأبد " ( 1 صم 20 : 23 ) . أى إلى نهاية حياتنا
· لما لجأ داود إلى أخيش ، ملك جت ، هربا من شاول الملك ، وطلب من أخيش أن يسكنه عنده لأنه أصبح عدوا لشاول ، يقول الكتاب : " فصدق أخيش داود ، قائلا : قد صار مكروها لدى شعبه إسرائيل ، فيكون لى عبدا إلى الأبد " ( 1 صم 27 : 12 ) .

آراء بعض الآباء وعلماء الكتاب المقدس فى شخصية ملكى صادق :
+ سئل قداسة البابا شنودة الثالث هذا السؤال : من هو ملكيصادق ؟ وما معنى قولنا فى المزمور : " أنت هو الكاهن إلى الأبد على طقس ملكيصادق " ( مز 110 : 4 ) ، ما هو طقس ملكيصادق هذا ؟
( كتاب سنوات مع أسئلة الناس – ج 1 – لقداسة البابا ، ص 46 ) .
أجاب قداسته : " أول مرة ورد فيها أسم ملكيصادق كانت فى استقباله لإبراهيم عند رجوعه من كسرة كدرلعومر والملوك الذين معه ( تك 14 : 18 – 20 ) ، وفى هذه المقابلة ، قيل عن ملكيصادق ما يأتى :
( 1 ) أنه ملك شاليم ( ولعلها أورشليم ) .
( 2 ) أنه كاهن الله العلى ، وقد قدم خبزا وخمرا .
( 3 ) أنه بارك أبانا إبراهيم ، وأبونا ابراهيم قدم له العشور .
ويقرر معلمنا بولس الرسول أن ملكيصادق أعظم من ابراهيم ، على اعتبار أن الصغير يبارك من الكبير ، ( عب 7 : 7 ) ، وعلى اعتبار أنه دفع له العشور ، وبالتالى يكون كهنوت ملكيصادق أعظم من كهنوت هارون الذى كان فى صلب إبراهيم لما باركه ملكيصادق .

* * *

وكهنوت المسيح والكهنوت المسيحى على طقس ملكيصادق ، وذلك من حيث النقط الآتية :
( 1 ) إنه كهنوت يقدم خبزا وخمرا ، وليس ذبائح حيوانية – التى أبطلها المسيح بذبيحته ، وأعطانا الرب إصعاد جسده ودمه من خبز وخمر حسب تقدمة ملكيصادق .
( 2 ) إنه كهنوت ليس عن طريق الوراثة ، فقد كان المسيح من سبط يهوذا وليس من سبط لاوى الذى منه الكهنوت .
( 3 ) كهنوت ملكيصادق أعلى فى الدرجة من الكهنوت الهارونى ؛ وقد شرح معلمنا بولس الرسول هذا الأمر فى ( عب 7 ) .
وقد قيل عن ملكيصادق أنه مشبه بإبن الله ... من جهة هذه الأمور التى ذكرناها ، وأيضا يقول عنه الرسول : " بلا أب بلا أم ، بلا نسب ، لا بداءة أيام له ولا نهاية حياة ، بل هو مشبه بأبن الله " ( عب 7 : 3 ) .
ولا نأخذ هذه الكلمات بحرفيتها ، وإلا كان ملكيصادق هو الله ، .. بل حتى من جهة الحرف ، لا نستطيع أن نقول إنه مشبه بأبن الله فى أنه بلا أم ، لأن المسيح كانت له أم هى العذراء مريم ، ولا نستطيع أن نقول إنه بلا أب ، فالمسيح له أب هو الآب السماوى .

ويقول الدكتور موريس تاوضروس ، أستاذ العهد الجديد بالكلية الإكليريكية ، فى تفسيره للآية : " بلا أب ، بلا أم ، بلا نسب ، لا بداءة أيام له ولا نهاية حياة ، بل هو مشبه بأبن الله ، هذا يبقى كاهنا إلى الأبد ...... يقول :
" ...... مما لا شك فيه أن ملكيصادق كان له أب ، وكانت له أم ، وكانت له بداءة أيام ونهاية حياة .
ولا يشار بهذه العبارة ( عبارة معلمنا بولس ) إلى ملكيصادق من حيث تكوينه الطبيعى ، بل يقصد أن الكتاب المقدس لم يتحدث عن أصل ونسب ملكيصادق لكى يكون رمزا صادقا للمسيح.