أحد الابن الضال - القس طوبيا اسكندر

تعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجوم
 
المجموعة: مقالات عن الصوم الكبير الزيارات: 3887

الأحد الثالث من الصوم المقدس يسمى أحد الابن الضال، او أحد الابن الشاطر .. وقراءات الكنيسة فى ذلك اليوم من إنجيل لوقا(1).. وفيه يتحدث الكتاب عن مثل الابن الضال الذى انفرد معلمنا لوقا الإنجيلى بذكره ..
بعض الدروس المستفادة من هذا المثل :

أولاً : الحـريـة  
يقول لنا المثل أن أباً كان له إبنان .. طلب الابن الأصغر من أبيه نصيبه من الميراث، رغم أن أبوه ما زال حياً ولم يمت !!  
"فقال أصغرهما لأبيه أعطنى القسم الذى يصيبنى من المال"(2).   

الله يحترم إرادتى وحريتى
لم يرفض الأب أو حتى يناقش رغبة ابنه بل بكل رضى قسم لإبنيه معيشتهما أى أنه أعطى الابن الأصغر نصيبه من المال أو الميراث.
أراد السيد المسيح أن ندرك من خلال هذا التصرف الذى قام به الأب ابنه حرية الإرادة التى وهبها الله للإنسان .. فقد أنعم الله بنعمة العقل التى يستطيع الإنسان عن طريقها أن يميز بين الصواب والخطأ.
والأدلة كثيرة على أن الله منحنا حرية الإرادة حتى عندما كان الإنسان فى الجنة حيث حذره الله قائلاً "من جميع شجر الجنة تأكل أكلاً وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها لأنك يوم تأكل منها موتاً تموت"(3).
لم يكن ذلك حداً من إرادة آدم بل كان تحذيراً من النتائج التى سوف تحدث إذا أكل من الشجرة، والدليل على ذلك أن الله كان يستطيع أن يمنع يد حواء عندما إمتدت لتأكل من الشـجرة، ولكنه لم يفعل احتراماً لإرادتها، فنجد الكتاب
 (1)-(لو15: 11- 32).        (2)-(لو15: 12).        (3)-(تك2: 16، 17).
يقول "فرأت المرأة أن الشجرة جيدة للأكل وأنها بهجة للعيون وأن الشجرة شهية للنظر فأخذت من ثمرها وأكلت وأعطت رجلها أيضاً معها فأكل"(1).     
الكتاب يوضح لنا شدة إحترام الله لإرادتنا فنراه مع مريض بيت حسدا يقول له محترماً إرادته "أتـريد أن تبرأ"(2).

استخدام خاطئ لحريتى
المثل يوضح لنا كيف نستخدم الحرية التى وهبها لنا الله بطريقة خاطئة ".. جمع الابن الأصغر كل شئ وسافر إلى كورة بعيدة وهناك بذر ماله بعيش مسرف"(3).
"وكان يشتهى أن يملأ بطنه من الخرنوب
الذى كانت الخنازير تأكله فلم يعطه أحد"(لو15: 16)

 (1)-(تك3: 6).            (2)-(يو5: 6).        (3)-(لو15: 13).
من خلال المثل نستطيع يا أحبائى أن نرصد نتائج استخدام الحرية بشكل خاطئ :

1- بـدأ يحـتاج ..
 هكذا قال الكتاب عن هذا الابن الذى بدد كل أمواله حتى أنه بدأ يحتاج ..

 2- استبدل حرية أبيه بعبودية الآخرين
 يقول الكتاب "فمضى والتصق بواحد من أهل تلك الكورة" .. ترك مكانته فى بيت أبيه كمالك لكل شئ ورضى أن يصبح عبداً عند آخر يتحكم فى أقداره وتصرفاته !

 3- استبدل شبعه من خيرات أبيه بشهوة أكل خرنوب الخنازير !
 يقول الكتاب أنه كان "يشتهى أن يملأ بطنه من الخرنوب التى كانت الخنازير تأكله"(1).

 4- استبدل الكرامة والعزة فى بيت أبيه بالبؤس والشقاء فى الكورة البعيدة ..
 شتان هو الفرق بين وضع ومكانة ذلك الابن فى بيت أبيه، وبين مكانته الآن فى تلك الكورة البعيدة، حتى أن كرامته أهينت .. حيث يقول الكتاب إن أكل الخنازير الذى اشتهى أن يأكله "ولم يعطه أحد" أى أنهم لم يوافقوا على أن يأكل من أكل الخنازير .. أى مهانة هذه وصل إليها هذا الابن ؟!
 أجاب السيد المسيح على هذا السؤال عندما قال "الحق الحق أقول لكم إن كل من يعمل الخطية هو عبد للخطية .."(2).
 "إن حرركم الابن فبالحقيقة تكونون أحراراً"(3).
 الحرية التى يقصدها السيد المسيح هى الحرية الداخلية أى أن يتحرر القلب من عبودية الخطية.
 الحرية الداخلية أقوى بكثير من الحرية الخارجية والدليل على ذلك أن حافظ السجن فى فيلبى ارتعد أمام بولس وسيلا رغم أن أرجلهما كانتا مقيدة فى المقطرة .. أما السجان فكان حراً بالطبع (حرية خارجية)(4).
 كما أن فيلكس الوالى ارتعب من كلام بولس الذى كان مقيداً بالسلاسل(5).     
 (1)-(لو15: 14).            (2)-(لو15: 16).        (3)-(يو8: 34).
 (4)-(يو8: 36).            (5)-(أع16).
ثانياً : التوبــة
   "رجـع إلى نفسـه"     
 أى أنه بدأ يراجع نفسه ويكتشف خطأ الطريق التى سار فيها .. تأمل فى حاضره كعبد للخطية، وماضيه كإبن حر لأبيه .. تذكر مكانته التى كانت عند أبيه "كم من أجير لأبى يفضل عنه الخبز وأنا أهلك جوعاً"(1).
 هنا نتوقف عند فكر محاسبة النفس الذى يقود إلى التوبة .. هذا الفكر تريد الكنيسة – من خلال الصوم- أن يكون فكراً متأصلاً فى حياتنا .. أى أن يكون فكر يومى نعيشه كل لحظة.
 التوبة هى العمود الرئيسى لحياتنا الروحية والذى يقودنا إلى الحياة الأبدية لذلك الكتاب المقدس من خلال آياته يحثنا دائماً على التوبة .. بل يعلمنا الإنجيل أن التوبة هى بداية الحياة المسيحية الحقيقية وشرطها الأساسى، فنجد أن أول كلمات السيد المسيح له المجد فى بدء كرازته كانت "... توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السموات"(2).
 ولكننا فى زحمة حياتنا اليومية، ونحن منشغلين بأعباء تلك الحياة واهتماماتنا الجسدية، قد نبتعد عن فكر التوبة، وينعكس ذلك على الممارسات الروحية مثل الصلاة والصوم فتصبح شكلاً بلا جوهر .. وهذا ما يلاحظه الكثيرون .. الواحد منهم يذهب إلى الكنيسة ويحضر قداساً ويخرج كما دخل ! يصلى فى البيت ولا يتمتع بالصلاة .. يصوم ولا يشعر أنه صائم، وهذا يرجع إلى أن التوبة من خارج هى ترك للخطية والبعد عنها وعن كل مسبباتها. ولكن قد يترك الإنسان الخطية ولا تزال فى قلبه رغبة نحوها، فهل نسمى ذلك توبة ؟!
 بالطبع لا لذلك لابد أن يكون هناك عمل داخلى أى داخل القلب حتى يصل الإنسان إلى كراهية الخطية، وهنا نقول أن هذا الإنسان قد وصل إلى التوبة الحقيقية.
 وطالما نحن فى الصوم الكبير حيث درجات النسك الكبيرة وحيث يمارس الكثيرون عمل الميطانيات سـواء فى العبادة الفرديـة فى البيت أو فى الصلاة
 (1)-(لو15: 17).                (2)-(مت4: 17).
الجماعية فى الكنيسة من خلال صلاة باكر فى قداسات الصوم يجب أن نعرف
ونفهم أن الميطانيات عمل داخلى .. حيث أنه فى الميطانية يسجد الإنسان ينحنى وتلتصق رأسه بالأرض أى بالتراب .. هذا هو العمل الخارجى الظاهر. ولكن هناك عملاً داخلياً يصاحب إنحناء الجسد هو أن تنحنى النفس من الداخل فى إنسحاق نتركها لكبريائها كما قال داود النبى "لصقت بالتراب نفسى"(1).
ثالثاً : الاعـتراف
   "... أقول أخطأت ..."                
 ما هو الخطأ الذى قرر أن يعترف به ؟
 كان الخطأ هو الابتعاد عن حضن أبيه والذهاب إلى الكورة البعيدة حيث الخطية .. وهذه هى نفس خطيتنا نحن أيضاً حيث نصير مالكين لأنفسنا ونتحول عن الله سر الحب، ونمضى إلى الأرض حيث خداع العالم والأباطيل.
 اعتراف الابن بخطأه يدعونا إلى أن نبحث عن حياتنا الروحية حيث كثيرون لا يعترفون أو يؤجلون الاعتراف لمدة طويلة.
لماذا لا نعترف ؟
 وهنا أقصد لماذا لا نعترف بخطايانا أمام الكاهن ؟
 هذا المثل يتكلم عن رجوع الابن إلى بيت أبيه أى بيت الآب، وهو ما يعنى رجوعه إلى الكنيسة .. رجع لكى ما يقر بذنوبه.
 ما يلاحظ الآن إن كثيرين ليس لهم أب اعتراف .. وكثيرون لهم آباء اعتراف لكنهم لا يترددون عليهم لمدد طويلة قد تطول إلى سنين .. وفى دراسة أجريت فى بعض كنائس القاهرة أوضحت أن نسبة المعترفين إلى مجموع الشعب وصلت إلى 5% وهذه نسبة ضئيلة جداً تدعو إلى القلق !!
حقائق غائبة عن كل من لا يعترفون
 1- الاعتراف فضح لعَدوَّى        
  قد يتصور المعترف أنه عندما يعترف يفضح نفسه، وهذا تصور خاطئ لأنه عندما يعترف إنما يفضح الشيطان عدو الخـير.. لأننا فى حالة حرب معه من
 (1)-(مز119).
اللحظة التى جحدناه فيها قبل المعمودية واعترفنا بيسوع المسيح فادياً ومخلصاً. لذلك فهو يحاربنا لكيما يسقطنا لا لأننا شئ يستحق المحاربة، وإنما يحارب المسيح الذى فينا.
  2- الاعتراف يرفع مكانتى
كثيرون يتصورون أن الإقرار بالخطايا أمام الكاهن سوف يقلل مكانتهم، وسوف يُغير من نظرته نحوهم خاصة لو كانوا من الخدام أو الأشخاص المعروفين فى الكنيسة. وهذه أيضاً خديعة من إبليس لأن من يقر بخطيته إنسان يخاف على أبديته، ومثل هذا الإنسان جدير بالاحترام، وليس بالإزدراء من الكاهن .. كما أن الكاهن يعلم تماماً أن البشر كلهم تحت الضعف، وأن "الجميع زاغوا وفسدوا وأعوزهم مجد الله"(1).
 3- الاعتراف مستند لأبديتى
الاعتراف ليس فقط من صميم جهاد الإنسان ضد الخطية فى هذا العالم لكنه من أهم المستندات التى التى تجيز لنا دخول الأبدية .. لأنى كيف أدخل إلى الأبدية إلى عرس الخروف المذبوح وثيابى ملطخة بدم آثامى ؟
إن الذين يدخلون الأبدية ثيابهم بيضاء بيضوها بدم الحمل(2).. إنهم اعترفوا بخطاياهم، فحملها عنهم ذاك الحمل الذى بلا خطية "إذ وُضع عليه إثم جميعنا"(3).
 4- الاعتراف فكر إنجيلى
الكتاب المقدس بعهديه يوضح لنا فكر الاعتراف بالخطية بل يأمرنا أن نعترف ونقر بخطايانا ..
فى العهد القديم
"إن أخطأ إنسان ما كان يأتى بذبيحة ويضع يده على رأسها ويعترف بخطاياه أمام الكاهن. فيأخذ الكاهن الذبيحة ويذبحها ويرش الدم ويكفر عن الخطية.
وهكذا تموت نفس بريئة (الحيوان) عن نفس خاطئة (الإنسان)، وكل أنواع الذبائح التى تمت فى العهد القديم كانت تشـير إلى الذبيح الأعظم يسوع المسيح
 (1)-(مز14: 3).                (2)-(رؤ7: 14).
الذى حمل خطايانا على الصليب، ومات فداءاً عنا رغم أنه كان بلا خطية.
"وكلم الرب موسى قائلاً. قل لبنى إسرائيل إذا عمل رجل أو امرأة شيئاً مـن جميع خطايا الانسان وخان خيانة بالرب فقد أذنبت تلك النفس. فلتقر بخطيتها التى عملت ..."(1).
"فإن كان يذنب فى شئ من هذه يقر بما قد أخطأ به. ويأتى إلى الرب بذبيحة لإثمه عن خطيته التى أخطأ بها أنثى من الأغنام نعجة أو عنزا من المعز ذبيحة خطية فيكفر عنه الكاهن من خطيته"(2).
"من يكتم خطاياه لا ينجح ومن يقر بها ويتركها يرحم"(3).
فى العهد الجديد
"وكان كثيرين من الذين آمنوا يأتون معترفين ومخبرين بأفعالهم"(4).
"من غفرتم خطاياه تغفر له ومن أمسكتم خطاياه أمسكت"(5).
"الحق أقول لكم كل ما تربطونه على الأرض يكون مربوطاً فى السماء وكل ما تحلونه على الأرض يكون محلولاً فى السماء"(6).
توضيحاً للآيتين السابقتين .. كيف يمكن للكهنة أن يغفروا الخطية أو يمسكوها دون أن يعرفوها أو يفحصوها ؟!
أى كيف يعرفوها دون اعتراف من صاحبها ؟ كيف يمكن لقاضى أن يحكم فى قضية إن لم تُعرض عليه، ولم يسمع تفاصيلها ؟!
كانت هذه يا أحبائى بعض الدروس المستفادة من مثل الابن الضال، وهى كثيرة لا يتسع المجال أن نتوقف عندها بالجملة ..
ليعطنا الرب حياة التوبة المستمرة ولنكون مستعدين دائماً لمجاوبة كل من يسألنا عن "سبب الرجاء الذى فينا"(7)..
ولإلهنا كل مجد وكرامة من الآن وإلى الأبد آمين
 (1)-(عد5: 5- 7).        (2)-(لا5: 5، 6).        (3)-(أم28: 23).
 (4)-(أع19: 18).            (5)-(يو20: 12).        (6)-(مت18: 18).
 (7)-(1بط3: 15).