عِيدُ البِشَارَةِ المَجِيد

تعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجوم
 
المجموعة: مقالات القمص أثناسيوس جورج الزيارات: 1839

عظيمة هي كرامة عيد البشارة؛ بكر الأعياد السبعة الإلهية؛ الذي فيه كانت جُملة الأشياء التي الله مزمع أن يكملها بالتجسد العجيب وسر التدبير.. أحيانًا كثيرة لا يلتفت الناس لهذا العيد مثل بقية الأعياد؛ لكونه يقع في صوم الأربعين المقدسة؛ إذ يظنون أن كرامة الأعياد بالمأكل والمشرب؛ بينما هذا العيد هو رأس الأعياد كلها وبدايتها، بالبشرى المفرحة في ملء الزمان عندما أرسل الله ابنه مولودًا من امرأة؛ مولودًا تحت الناموس؛ لننال التبني.

جاء غبريال المبشر الواقف أمام الله؛ إلى العذراء الطاهرة مريم حاملاً لها البشارة (سلام لكِ أيتها الممتلئة نعمة).. فقد اختارتها النعمة الإلهية من بين جميع الأجيال؛ لتصحح سقطة حواء الأولى.. تفكرت في خزائن الكنوز ونور مجده المبهر، تفكرت من غير خوف ولا طياشة؛ بل برزانة وطاعة نالت النعمة التي لا تخضع لقوانين الطبيعة والمخفية؛ حتى عن الأنبياء ومصاف القديسين.. ففي البشارة حل الروح القدس على أطهر العذارى، وحيث يوجد الروح القدس تترتب الأمور وتنتظم، وحيث تكون النعمة حاضرة تكون الأمور كلها ممكنة عند الله، فالمولود منها يدعى ابن الله؛ بهاء مجده ورسم جوهره.

امتلأت بملء كنز النعمة والسلام؛ لأنها وحدها المختارة من جميع الأجيال؛ كفخر العذارى الطاهرة نفسًا وجسدًا وروحًا. وهي التي ستحمل ذاك الذي يحمل كل الأشياء بكلمة قدرته.. الرب معها؛ لا زوج أرضي؛ لكن الروح القدس يظللها وهي التي لم تعرف رجلاً قط، والمولود منها قدوس وملِك القديسين، ومنها خرج اللؤلؤة الكثيرة الثمن.. نالت التحية من عند أبي الأنوار؛ وصارت تابوتًا مصفحًا؛ وقسط ذهب مخفي فيه المَن؛ وهوذا كلمة الله أتى وتجسد منها، لذلك قال لها الملاك (ستحبلين وتلدين) وكأن الأمر صار واقعًا؛ وهو بحسب الله حتمًا واقعًا، لذا ألبسها ثوب الرزانة والطهر وجعلها آنية للفرح السمائي، وقد صانت البتولية بمصباح لا ينطفئ قبل وأثناء وبعد الولادة، كزيتونة مثمرة وكشجرة معطية للحياة.

إن العذراء اللامعة نالت البشارة بفم الملاك، وصارت مباركة في كل النساء وثمرة بطنها مباركة؛ لأنها بداية الخليقة الجديدة. فحواء الأولى رفضت الأوامر الألهية؛ أما العذراء قبلت في اتضاع مشورة الله كعبدة... الأولى أذعنت لمشورة الشيطان؛ أما العذراء حواء الثانية آمنت بما قاله لها الملاك... حواء الأولى خُدعت بالوعد والتأله الكاذب؛ أما الثانية قبلت برضا أن يحل كلمة الله في أحشائها... ففي ملء الزمان تم الاختيار الإلهي لمريم العذراء حواء الثانية التي قبلت أن تحمل رأس وأصل الحياة؛ وجذرها الجديد الذي منه ستزهر البشرية الجديدة وتزدهر متحدة بالله.. وهكذا صارت طاعة مريم العذراء هي المقابل المضاد لعصيان حواء؛ وبهذه الطاعة أصبح ممكنًا لعمل الخلاص أن يبدأ؛ إذ لم يكن ممكنًا أن يتم إلا بواسطة حلول كلمة الله نفسه في أحشاء البتول زينة البشرية؛ التي مثّلت عجنة البشرية كلها في قبولها مبادأة الله بالخلاص.

إن اليوم؛ يوم عيد البشارة؛ لعيد جليل ببشارة ميلاد الرب الإله الذي يملك على بيت يعقوب إلى الأبد؛ ولا يكون لمُلكه انقضاء؛ لأن مُلكه ليس أرضيًا ولا زمنيًا زائلاً؛ بل سمائيًا وأبديًا، واسمه على كافة المؤمنين به، وهو إلههم وملكهم ومخلصهم.. وفي هذه البشارة كان أيضًا إعلان للثالوث القدوس الذي كان أولاً مستورًا ورمزًا في كتب الأنبياء؛ فأعلن الملاك حضور الثالوث القدوس الواحد في اللاهوت بلا تجزؤ ولا افتراق (روح القدس يحل عليكِ – وقوة العلي تظللكِ – المولود منك قدوس وابن الله يُدعى)... لقد قال لها الملاك (المولود منكِ) ولم يقل الذي تلديه؛ بل منكِ أي يتجسد منكِ بحق؛ وللوقت عندما أجابت (ها أنذا أمة الرب – ليكن لي كقولك).. عند قولها هذا؛ للوقت الحاضر حل فيها شمس البر؛ لأنه لم يُرد أن يغصب الطبيعة التي أعطاها تخيير الإرادة وسلطة الحرية منذ البدء؛ حتى طلبت هي ذلك بشهوة في الله من تلقاء الروح؛ ثم انصرف عنها الملاك.

مريم الطوبانية والقبة والسماء الثانية... المنارة وتابوت العهد والعوسجة البهية؛ أحبت الله من (كل) قلبها، ومن (كل) نفسها، ومن (كل) قدرتها، لم تتمركز حول ذاتها، فوجدت نفسها ووجدت معها الحياة الحقيقية التي ملأت كيانها؛ فالذي يتخلى عن مشيئته الذاتية يصير حاملاً لله؛ بدلاً من أن يكون حاملاً لذاته، لهذا اختارها الله وقدسها وطهرها واصطفاها ليحل فيها؛ وقد أرسل لها ملاكه المبشر.. واستطاعت مريم بإيمانها وطهارتها ونسكها وطاعتها أن تحقق حُلم البشرية (ليتكَ تشقّ السموات وتنزل) إش ١:٦٤.. نعم لقد انفتحت السماء، والكلام الإلهي الذي حملته بشارة الملاك؛ كان بمثابة الأساس للعهد الجديد؛ عهد بشارة الفرح والسلام الأبدي في صهيون الأم التي قالت إن إنسانًا وإنسانًا صار فيها وهو العلي الذي أسسها إلى الأبد؛ وسُكنى الفرحين فيها.. قامت واستنارت وجاء نورها وأشرق عليها مجد الرب؛ ونزع عنها الأقضية وأُزيلت عنها العداوة؛ وصار عمانوئيل الله معنا في وسطنا بمجده ومجد أبيه والروح القدس.