أيها الحبيب، ها أنا أعاهدك بالرب عهدًا جديدًا، فإن حفظته فسيمنحك الرب في النهاية سرورًا: إن زهدت في العالم الباطل، ودخلت إلى الكنونيون في مجمع إخوة كثيرين، فلا يطغك العدو كى تخرج من الدير لئلاَ تندم أخيرًا. بل اصبر واضعًا لنفسك أساسًا صالحًا بكل تواضع العقل، فلا تجزع من المحن المتقاطرة عليك من العدو، بل أصبر لكى تنال التطويب، لأنه كتب: "طوبى للرجل الذي يصبر على المحنة، لأنه إذا صار مختبرًا ينال الإكليل الذي وعد به الرب للذين يحبونه" (يع1:12).
أتشاء أن لا يستولى عليك العدو؟ اقطع كافة مشيئاتك فيصير لك نياح وإن ظننت أمر ما أنه جيد، وأعلمك المتقدم عليك بالرب أنه ليس جيدًا، فاخضع له في الرب، لأن من يؤثر الشغب ويتبع فكره، فذلك علامة انغلابه. لأن الأخ المبتدئ إذا أمر ولم يخضع، فإنه يصنع لذاته اسم تعيير، فقد قال في المزمور: "اعبدوا الرب بتقوى وهللو له برعدة، تمسكوا بالأدب لئلا يسخط الرب فتضلوا عن الطريق المستقيمة" (مز 5: 11).
فمن يحب التأديب لا يحزن، ومن يمقت الأدب يخسر ذاته. فكما أنه غير ممكن أن تضع في جرة واحدة نبيذًا وخلًا معًا، هكذا لا يمكن أن تسكن فضيلة العبادة مع عدم الأدب. وليقنعك بذلك الرسول قائلًا "أى اتفاق للمسيح مع المارق؟ وأى شركة للنور مع الظلمة؟" (2 كو 6: 14).
أحبب العفة متناهيًا في حدودها لكى يسكن روح الله قلبك. وإذ قد أهلت لسيرة العبادة، فلا تتنازل هكذا للأفكار التي تحاول أن تفصلك من زمرة الإخوة لئلا تتعلم من بدء حياتك أن تكون تائهًا وغير ثابت.
احذر أن تضيع الورع الذي كان لك حين دخلت الدير، بل تمسك به إلى النهاية. السب والحلف لا يلفظان بشفتيك كما يليق بالقديسين، بل كن متواضعًا وفي كا إجاباتك فلتكن لك: "اغفر لى". ولتبد منك كل العادات الرديئة التي للعالم لكى تسلك بسيرة ذات فضيلة، فيكون لك المدح من الرب.
إذا أحببت سيرة العبادة، وتركت الذهب والفضة والثياب، وتقدمت فأرسلتها كما تأمر وصية المخلّص، فاقتنٍ عوضًا عنها الأمة (أى الإمان) والحمية والصبر والتوضع، والباقى يرزقك إياه الله بخيريته.
إن جاء أحد من حال جليلة إلى سيرة العبادة، فليحفظ ذاته من شيطان استعلاء العقل، لئلا يسقط في روح الكبرياء وعدم الخضوع فيخسر ذاته.
أيها الحبيب، هذا الأمر ليس هو خجلًا لك، أن تكون في الطاعة بحسب مشئية الرب، أو أن تعمل الصلاح بيديك، لأن هذه الضيقة اليسيرة والضغطة التي تحتملها من أجل الرب تصير سبببًا لنوالك الحياة الأبدية. وماذا أقول؟ إن كل ضيقة سيرة العبادة هي كمن يستبدل درهمًا بربوات قناطير ذهب، فهكذا هي الضغطة الحاضرة بإزاء الحياة الآتية الأبدية. وبالعكس هي الضيقة العتيدة التي تلتقى صانعى الصلاح. إذا فأنت تعطى هنا أشياء قليلة وتأخذ عوضًا عنها هناك نصيبًا جزيلًا.
تيقظ الآن يا حبيبى مثل جندى نجيب، ولا تهمل الموهبة التي فيك بالتوانى، لئلا يوافيك الأمران كلاهما: أنك أحزنت الناس، أعنى والديك بالجسد وجميع خلانك، والله ما أرضيته. فجاهد إذا لكى يمجد بك الحاضرون الله بسيرتك الصالحة، لأنه قد كتب أن "الذين يتقونك يبصروننى فيسرون، لأننى وثقت بأقوالك" (مز 119: 74)، وأيضًا: "سلامة جزيلة للذين يحبون شريعتك وليس لهم شك" (مز 119:165). فلهذا احترس من استعلاء العقل، والرب يكون لك نصيبًا وحصنًا، الذي له التسبيح إلى الأبد آمين.
يا إخوتى، إننى أشعر أن النعاس الذي يؤذى الإنسان ليلًا هو ثلاثة أنواع. النوع الاول يعرض للأخ من فعل الشرير إذا بدأ يصلى، ولكن خلوًا من رقاد الأخ فهو لا يقدر على شئ، بل يؤذيه بالأكثر إن ثقلت معدة الأخ بالأطعمة والأشربة. والنوع الثانى يجعل الأخ يتوانى في منتصف الليل إذا لم يكره ذاته في الوقوف إلى كمال القانون فيؤثر أن يترك المرتلين عند انتصاف الصلاة ويذهب إلى فراشه. أما النوع الثالث فيعرض للأخ بعد كمال رسم الصلاة الجامعة المألوفة. فمن أجل هذا يحتاج الضعفاء من الإخوة إلى التمهل لئلا يتمموا رأى العدو.
وأنت أيها الأخ فلا ترقد في كل شىء. أما سمعت مرارًا كثيرة أن الرب حين استدعى صموئيل النبى لم يكسل عن النهوض مع أنه كان صبيًا. فإذا قمت للصلاة الجماعة وسط الإخوة، أو قمت في التفرد (أى وحدك) لتمجيد ربنا يسوع المسيح، فآذالك النعاس الأول، قاومه بمعرفة لئلا يضاعف كسلك ويردك إلى فراشك فارغًا. بل اصبر بثبات، وقد تحدثنا عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام أخرى.وإذا ألقاك على وجهك مرة ومرتين فلا تنتقل من مكانك وأنت تجد منفعة عظيمة. لأن ألم النوم الذي لا يشبع منه ليضاهى شره البطن، لأنه تعود أخذ أن يأكل كثيرًا، تطالبه الطبيعية بأغذية كثيرة، وإن تعود الإمساك والحمية فلا تطالبه الطبيعة أن يأكل كثيرًا.
ردد في تفكيرك أن الصيادين يقضون الليل كله ساهرين وهم يتوقعون الصيد، فإن تثقل أحدهم بالنوم فتوانى ونام، ثم نهض من نومه وتأمل ذاته كيف أنه لم يتصيد شيئًا وأبصر الساهرين والمتيقظين وقد رزقوا، فحينئذ يندم في ذاته ويقول: ويلى أنا الخاطئ المضطجع والعاجز، لأننى توانيت ونمت، ولولا ذلك لكنت اصطدت ورزقت كرفقائى، لكننى توانيت، فالآن أذهب فارغًا إلى بيتى وليس في يدى شىء، لأنه قيل {نامو نومًا فلم يجدوا شيئًا } (مز 76: 5).
تفكر أيضًا في الفاخورى والحداد، فتجد هنك تعبًا لا يحصى وسهرًا كثيرًا جدًا وصبرًا. أما نحن فلا يشتمل جسدنا الدخان والغبار، ولا نحتمل نظيرهما، بل نقف في موضع نظيف ومقدس قدام ربنا والهنا في دالة جزيلة وسلامة، وفي مزامير وتسابيح وتهاليل روحانية ورجاء صالح. فلماذا نتهاون ونرقد يا أحبائى؟ وما هو عمرنا على الأرض؟ ها النبى يهتف قائلًا: "إن الإنسان أشبه بأمر باطل، وأيامه تعبر كعبور الظل" (مز 144: 4)
فلا تشابهنى أنا الراقد الذي ضيع الصبر، عالمًا هذا بكل تأكيد: أن من يتيقظ يربح ومن يضطجع يخسر، لأن كل واحد منا سوف يعطى عن نفسه جوابًا لله. وقد علمت أنه لا عذر لى عن أعمالى، لأننى أعظم الاخرين بينما أنا أثبت في توانيهم بعينه. لذلك أتضرع إليكم يا عبيد المخلص الؤمنين، أن تتضرعوا إليه من أجلى، مبتهلين إلى المسيح مخلصنا ملك القوات أن يمحو كثرة خطاياى بوفور رأفاته ويخلصنى ويردنى إلى ملكه السماوى بتعطفه على البشر.
فلا نحتسب النوم، يا إخوتى، فائدة وإراحة للجسد، فإن الفائدة والراحة هما أن يكلف الإنسان ذاته في عمل الرب كل حين. فلنكلف ذاتنا إذا يا أحبائى، لكى ما إذا جاء الرب يجدنا متيقظين فيؤهلنا لتطويبه؛ لأنه قال: "طوبى لأولئك العبيد الذين إذا جاء مولاهم يجدهم ساهرين". فليعز (أى يشدد) بعضنا بعضًا إلى النشاط وإلى تمجيد الرب مخلصنا يسوع المسيح، لكى ينهضنا مع كافة الذين أحبوا ظهوره، ويقيمنا عن يمينه في ملكه، الذي له المجد إلى الأبد آمين.
يا أحبائى، فلنصر مثل جند شجعان مستعدين أن نموت عن ملكنا. لأننا حين كنا نتصرف في العالم ونتقلب في الأمور الأرضية، لم تصبنا هذه الشدائد، ولا دهمتنا هذه الغموم، بل الآن لما جئنا لنرضى الرب بحرارة، ينهض علينا الشرير هذه المحن والأحزان والهياج. أرأيت إذا أننا من أجل الرب تصيبنا هذه الأمور؟ لأن العدو يحسدنا ويروم أن يردنا عن طريق الحياة ويقتادنا إلى الرخاوة والسآمة، لئلا إذا أرضينا الرب نخلص. فمهما أثار الخبيث من هذه الأشياء علينا، ووجدنا شجعانًا في الصبر ونشيطين مستعدين أن نأتى إلى الموت صابرين من أجل رجاء المسيح، فستنحل كافة حيله. لأن إلهنا مؤزر لنا ومحارب عنا؛ فإنه يمنحنا الصبر إذا صبرنا واتكلنا عليه، ويخزى أولئك (الشياطين)، فنحظى من الرب بمكافأة الأتعاب، التي هي الملكوت.
فلنصر، يا إخوتى، مثل سندان الحداد يضرب فلا يتأثر، فلا نقبل في ذاتنا أثرًا واحدًا من الاسترخاء أو من السآمة أو من الضجر في الجلدات والمحن. فإذا كنا نجاهد فلنغلب الذي يصارعنا بالصبر؛ لان ربنا هكذا جال هذا الدهر مجلودًا معيرًا مبصوقًا عليه ومرجومًا، وأخيرًا احتمل موت الاثمة موت الصليب. فقد احتمل سائر الأشياء من أجل خلاصنا، تاركا لنا مثال الحياة، لكى ما في طريق الأحزان والمحن والموت التي سلكها، يسلك الذين يؤمنون به الحقيقة والذين يؤثرون أن يصيروا مات غلب وقتل وداس الخطيئة بالجسد، وجرد القوى المضاد كما كتب: "جرد الرئاسات والسلطات وفضحهم على الصليب" (كو 2: 15). هكذا نحن إذا صبرنا على كل شغب وحزن يأتى علينا من الخبيث بشهامة، نسرع لكى نغلب المضاد بالإيمان والصبر والرجاء في المسيح. وهكذا نصير مهذبين هنا، ونؤهل للافتداء ونمتلئ قداسة وفرحًا، ونصير وارثين الحياة الابدية هناك.
لأنه في الجهاد الروحانى يصير الظفر بالمعاند بواسطة الآلالم والموت، فإذا تألمنا ومتنا من أجل الرب نغلب بنشاط كل اقتدار العدو. ولا ينبغى أن نحسب كل حزن وكل محنة أنها مؤلمة موجعة، بل فلتكن شهوتنا موجهة إلى الرب، جاعلين موته قدام أعيننا دائمًا.
فاحتملوا كل النوائب بصبر كما قيل: "كل يوم تحمل صليبه"، الذي هو الموت، "ونتبع إثره"؛ فهكذا نحتمل بسهولة أي اغتمام سواء كان مكتومًا أو ظاهرًا. لأننا إن كنا نحتمل أن نصبر على الموت من أجل الرب، ونتوق أن يكون الرب قدام أعيننا كل حين، فكيف لا نصطبر بفرح على الأحزان مهما كانت ثقيلة حين تداهمنا بحجة وبغير حجة. ولكننا نحتسب الغموم ثقيلة ولا صبر لنا عليها، لأننا ننظر الموت قدام أعيننا ولا يتوق إليه ذهننا كل حين. لأن من يشتهى أن يرث المسيح، فهو يؤثر بلا شك أن يتألم معه. فالذين يحبون المسيح بهذا يعرفون: إذا صبروا على كل حزن بشهامة ونشاط من أجل الرجاء بالله.
فلنتضرع الآن إلى الرب أن يعطينا فهمًا لنعرف مشيئته ونكلمها بنشاط بكل صبر وتمهل وسرور. ليعطنا الرب إياها ويؤيدنا في ككل أمر يرضيه، لكى نوجد مهذبين ونكون مستحقين أن ننال الخلاص الأبدى، بيسوع المسيح ربنا الذي له المجد والعزة إلى الأبد. آمين.