حنين العودة كلمات نافعة بمناسبة صوم الأربعين المقدسة للقديس يوحنا ذهبى الفم

تعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجومتعطيل النجوم
 

عندما يهلُّ علينا الصوم المقدس ربيعنا الروحي، لنكن كالجنود نصقل أسلحتنا، وككرَّامين نشحذ سككنا، وكصيادين نرتِّب أنفسنا ضد أمواج الشهوات الجامحة، وكغرباء نستعد لرحلة السماء، وكمصارعين نتجرَّد للصراع].

حينما يهلُّ الصوم الأربعيني المقدس على النفوس التقيَّة، فإنها تفرح فرحاً روحانياً عجيباً يصعب تفسيره على قياسات هذا الدهر. والإنسان المسيحي، لو يتسمَّع نبضات النفس الداخلية يجدها تترنَّم في الصوم بترنيمات فرح سماوي لذيذ، رغم التقشُّف وأعمال قهر الجسد؛ إذ يحسُّ بإحساس الغريب الذي يرنو إلى شاطئ الوطن بينما سفينة حياته تتهادى، بتوالي الأيام والسنين، مقتربة من أرض الأحياء وأهل بيت الله.

وعجبي حقاً على هذه الكنيسة التي استطاعت أن تطبع في وجداننا حلاوة هذا الموسم الروحي، يُصاحبنا منذ طفوليتنا حتى يستودعنا النهاية السعيدة. فكلٌّ منا، رجلاً كان أو امرأة، في ربيع الحياة أو خريفها، ذاق هذه الأحاسيس ولو مرة في حياته.

كم من أُناس يستحيل عليهم الخروج للعمل دون إفطار، حتى إذا ما جاء الصوم المبارك لا يجدون مشقة تُذكَر في قضاء أعمالهم ومصالحهم صائمين، بل إذا ما اقترب موعد تناول الغذاء يطوفون المدينة ملتمسين كنيسة تُقيم الذبيحة المقدسة، لينالوا البركة قبل عودتهم إلى البيت. وكم من نساء تلزمهن أمور الحياة من حَمْل وإرضاع وعناية بأطفال، بالإضافة إلى واجبات الوظيفة، بالامتناع عن الصوم؛ فإذا هلَّ عليهن الصوم الكبير لا يجدن صعوبة في الانتظام فيه، بل يتفوَّقن على الرجال متشبِّهات بالقديسين وسكان البراري!!

ويتجاوب رجال الكنيسة كهنة وعلمانيين أتقياء مع غيرة الشعب، فتُقام قدَّاسات يومية وافتقادات عائلية، بحثاً عن الأُسَر المتخاصمة ليُصالحوهم، وعن زوجة غاضبة فارقت بيتها وأولادها يسعون وراءها ليردُّوها إلى رجلها وأطفالها. وبعد كل ذلك، اجتماعات روحية كل مساء لإنهاض الغافلين وإيقاظ وعيهم بالتوبة.

لذلك دعاه الأقدمون ”ربيع الحياة الروحية“. فكما تنشط في النباتات والأشجار قوة حياة مع موسم الربيع، فتكتسي بالأوراق وتمتلئ بالزهور مُبشِّرة بثمار وفيرة؛ هكذا تؤازر الصائم قوة الروح القدس ليُعيد النظر في الحياة والسلوك الشخصي والعائلي، ليقطع أهوية وشهوات الجسد بسكين الروح الباتر، ويضبط نفسه ويتعفَّف، نامياً في أعمال الفضيلة والرحمة بـالمساكين والفقراء، ساهراً على كلمة الله، مواظباً على الصلاة القلبية في المخدع بندامة وتضرُّع وقرع صدر مـع أسرته. وكـل هذا - يـا للعجب - يتم في النفس دون أن تجزع من دموع أو حزن، ودون أن تندم أو تتحسر على شهوات مُحبَّبة تركتها إلى غير رجعة، بل في دفء الروح تتقدم في حياة القداسة بمسرة لذيذة.

+ والكلمات التالية للقديس يوحنا ذهبي الفم كفيلة بتشجيع القارئ ليأخذ نصيبه في هذا الربيع الروحي، أو للردِّ على أسئلة مُحيِّرة أو تشكيك يلقيه العدو في قلبك ليعوقك عن التحوُّل من حياة حسب الجسد إلى حياة حسب الروح، حتى إذا ما أقبل عيد القيامة يكون عيداً بالصدق والحق.

فرح التوبة:

[الذي في قلبه محبة السماويَّات يتخلَّى بسهولة متناهية عمَّا يملكه، سواء كان غنىً أو مجداً، لأن حرارة هذا الفرح في دخولها إلى النفس تطرح كل تكاسُل وتجعل مَن يتمسك بها يُحلِّق بخفة في السماء، وبالتالي يتغاضى عن كل المرئيات. مثل هذا الإنسان يحيا في ندامة مستمرة، ويسكب ينابيع دموع لا تنتهي، فينال ثمار الفرح المُفرط. فلا شيء يربطنا ويوحِّدنا مع الله مثل هذه الدموع. إنسان كهذا، رغم أنه يعيش في المدينة وأسواقها إلاَّ أنه كمَن يقضي زمانه في بريةٍ أو فوق الجبال أو الغابات. لا شيء من المرئيات يجذبه ولا يحس بشبع من هذا العزاء، سواء كانت دموعه عن نفسه أو بسبب تواني الآخرين. فلهذا أعطى ربنا الطوبى للباكين].

ولكن، كيف تجتمع الدموع مع وصية الرسول أن نفرح كل حين؟

[الفرح الذي يعنيه الرسول هو المنبعث من هذه الدموع. وكما أن فرح العالم يحمل ضمناً الأسى كجزء حتمي، هكذا الدموع المقدسة هي بذار الفرح الدائم الذي لا يزول. هكذا صارت الخاطئة مُكرَّمة أفضل من العذارى لمَّا تمسَّكت بهذه النار(1). أعني أنها لمَّا امتلأت بحرارة التوبة صارت محمولة خارج نفسها بلهفة محبتها للمسيح، فحلَّت شعرها وبلَّلت قدميه الطاهرتين بدموعها ومسحتهما بضفائرها. هذه ثمار خارجية، أما ما جرى في قلبها فكان أكثر حرارة من هذا، أمور لا يقدر أحد على معاينتها سوى الله!! لذلك، صار كل مَن يسمع خبرها يفرح معها ويبتهج بأعمالها الصالحة ويُبرِّئها من أية ملامة. فإن كنا ونحن بعد خطاة وفي هذا الجسد نقول هذا، فكم بالأكثر جداً ستنال تبريراً من الله محب البشر؟!... وكم حَصَدَت من البركات بسبب توبتها هذه قبلما تنال النِّعَم من الله؟!...

أَلاَ ترى أن هطول الأمطار يعقبه سماءٌ صافية؟ هكذا تهدأ النفس بعد انسكاب الدموع وتختفي منها الظلمة التي تغشاها بسبب الخطية. وكما تقدَّسنا بالماء والروح (عند المعمودية)، هكذا بالدموع والاعتراف نتطهَّر ثانية... وأنا أعني دموع الندم التي تفيض سرّاً في المخدع وليس أمام إنسان، في بساطة وبلا ضجيج، تلك التي تنبع من عمق وتنسكب حزناً وأسى لله وحده كدموع حنَّة التي كانت شفتاها فقط تتحرَّكان وصوتها لم يُسمَع (1صم 1: 13)](2).

لا تيأس، ولا تستسلم:

[قد يكون لك ثماني وثلاثون سنة في مرضك وتشتاق جداً أن تعود صحيحاً. فماذا يمنعك؟ المسيح حاضرٌ الآن أيضاً ويقول لك: «قُمْ احمل سريرك» (يو 5: 8). ليتك تشتاق إلى النهوض!!... ليس لك إنسان؟ لكن لك المسيح... ليس لك مَن يُلقيك في البِرْكة؟ لكن عندك مَن لا يدعك تحتاج إلى البِرْكة... ليس لك مَن يُلقيك هناك؟ لكن هوذا الذي يقول لك: «قُم احمل سريرك»!

لا يمكنك، إذن، أن تقول: «بينما أنا آتٍ ينزل قدَّامي آخر» (يو 5: 7)، لأنه إن كنتَ تشاء أن تنزل إلى ينبوع الشفاء فلا يوجد مَن يمنعك. النعمة لا تُستنفد، ولا تضيع. هي ينبوع دائم الجريان ومن ملئها تُشفَى جميعاً نفساً وجسداً. ليتنا نُقبِل إليها في الحال. راحاب كانت زانية أيضاً وخلصت، واللص كان قاتلاً فصار أول مواطني الفردوس. هذه هي أعمال الله العجيبة!... هكذا صار العشار إنجيليّاً(3) والمجدِّف رسولاً(4)!

تأمَّل هذا ولا تيأس. لتكن لك ثقة وانهض وقُم. ثبِّتْ عينيك على الطريق فتتقدَّم سريعاً... لا تُغلق على نفسك الباب ولا تسد المدخل. الحياة الحاضرة مُقصَّرة والجهاد تافه. لا تستكثر على نفسك هذا التعب المجيد الذي تصرفه في التوبة وحياة الفضيلة؛ لأن نصيبنا في هذه الحياة هو التعب والمشقة على كل حالٍ، فلماذا لا تختار الذي ثماره وفيرة ومجازاته عظيمة](5)؟!

لا تستصعب التوبة حتى لو تقدَّمَت بك الأيام:

[الرب يُناديك «اليوم إن سمعتم صوته فلا تقسُّوا قلوبكم» (مز 95: 8،7). كلمة ”اليوم“ يمكن أن تُقال على كل أزمنة الحياة، حتى إلى غروب العمر إن أردتَ، لأن التوبة لا تُطلَب بحسب كمية الزمن بل بحسب ميل القلب. أهل نينوى لم يحتاجوا إلى أيام كثيرة لتُرفع عنهم خطيتهم، بل في يومٍ واحد فقط نالوا محو آثامهم. اللص لم يستغرق وقتاً حتى يدخل الفردوس، بل في لحظةِ نُطْق كلمته اغتسل من جميع خطاياه التي ارتكبها طيلة حياته، ونال المكافأة بالحظوة الإلهية قبل الرسل.

فالحاجة، إذن، إلى الحرارة واستعداد القلب. فإذا أعددنا الضمير حتى يكره الشرور السابقة ونختار الطريق الآخر الذي يسرُّ الله فلا حاجة إلاَّ إلى أقل وقت. سقوط الإنسان ليس بالأمر المُحزن كمثل بقائه طويلاً في هذا السقوط، ليصير ذريعة يختفي وراءها الضعف الأدبي والخُلُقي بحجة اليأس](6).

الله يعضدنا بكل وسيلة ويغرينا على الرجوع:

[... كأفضل الأطباء الذين يسعون لاستعادة الصحة للمريض، ليس فقط بالمعالجة الطبية حسب أصول المهنة، بل أيضاً بمنحهم الرضا والمسرة القلبية؛ هكذا يُهدي الله المنحرفين ليس بقسوة بل بوداعة وبالتدريج، يؤازرهم من كل جانب حتى لا يتزايد انفصالهم ولا يطول بُعدهم. نرى هذا في مَثَل الابن الضال (لو 15: 11-32) الذي لم يكن غريباً بل ابن البيت وشقيقاً للأخ الأكبر الذي كان موضع مسرَّة أبيه، لما تناهى في الرذيلة، وهو الغني ابن الأحرار ذو التربية الرفيعة، صار إلى حالٍ أسوأ من العبيد والأُجراء. ومع هذا لما عاد استرجع حالته الأولى ونال كرامته السابقة. فلو يئس من حياته واستمر في أرض غربته لهلك جوعاً ومات أشنع ميتة. ولكن لأنه تاب استعاد كرامته الأولى بل وأفضل منها، إذ أُعطِيَ الحلة الفاخرة واستمتع بأمجاد تفوق ما كانت لأخيه الذي قال لأبيه: «ها أنا أخدمك سنينَ هذا عددها، وقطُّ لم أتجاوز وصيتك، وجِدْياً لم تُعطني قطُّ لأفرح مع أصدقائي. ولكن لما جاء ابنك هذا الذي أكل معيشتك مع الزواني، ذبحتَ له العجل المُسمَّن». هذه هي عظمة التوبة](7)!!

لا تتشكَّك في خلاصك:

[أن تخطئ، فهذا ضعف بشري. أما أن تستمر في الخطيئة فلم يَعُد الأمر بشرياً بل شيطانياً. الله لم يخلقنا لكي يُعاقبنا، لئلا يكون لك عذر في اليأس أو تتشكَّك في إمكانية خلاصك؛ بل خلقنا من أجل المسرَّة وحدها وبقصد أن نتمتع ببركاته الدائمة. فإن كان الله يسعى منذ البدء وحتى الآن لهذه الغاية فقط، فلماذا ترتاب إذن؟ موسى النبي لما خاطب الشعب قال لهم: ”فالآن يا إسرائيل ماذا يطلب منك الرب إلهك إلاَّ أن تتقي الرب إلهك لتسلك في كل طرقه وتحبه“ (تث 10: 12)؟

فالذي يهتم جداً أن تحبه، ويفعل كل شيء لهذه الغاية حتى أنه لم يشفق على ابنه الوحيد بسبب محبته لنا، والذي لا يشتهي شيئاً أكثر من أن تتصالح معه، كيف لا يرحب بنا ويحبنا حينما نتوب إليه]؟!

مقاومة إبليس:

[... الذين أظهروا شروراً كثيرة إذا تابوا يعملون أعمالاً صالحة بنفس الغيرة التي ارتكبوا بها الشر، إذ يدركون مقدار الدَّيْن الذي سامحهم به الله. هذا ما أعلنه المسيح في حديثه مع سمعان الفرِّيسي عن الخاطئة (لو 7: 44-47). والشيطان إذ يعلم بهذه الغيرة يرتعب ويخشى أن يخطو الإنسان الخطوة الأولى في التوبة، لأنه يُدرك أنه بهذه الخطوة لن يسهل ردعه. فالنار التي أشعلتها التوبة في قلبه تجعل روحه أنقى من الذهب، وتدفع ضميره - تحت تأثير تذكار خطاياه السالفة - نحو ميناء الفضيلة. أن تخطو الخطوة الأولى وتدلف إلى بهو التوبة، فهذا أشق عمل وأصعب جهاد. وأما بعد ذلك فلن يستطيع العدو أن يعرض شراسته لأنك أسقطته وطرحته، وستنال قوة عظيمة وتركض في الميدان بسهولة متناهية. إذن، فلنسرع إلى السماء مدينتنا حيث كُتبت أسماؤنا هناك، وحيث تعيَّن نصيبنا كوطن وكمواطنين](8).

ليكن لنا هذا الصوم حليفاً:

[لنصلِّ ولنتضرع ولنتوسل ونرسل سفارة إلى الملك الذي في الأعالي بدموع غزيرة!... ولنا هذا الصوم حليف ومعين في هذا التضرُّع الحسن. فعندما يتناهى الشتاء وتبدو تباشير الصيف ترى الصياد يَعدُّ قاربه للأعماق، والجندي يصقل أسلحته ويستعد للمعركة، والفلاح يشحذ سكة المحراث، ويتعاهد المغامر نفسه لرحلة بعيدة، والمصارع يتدرب للصراع، وهكذا. بالمثل أيضاً عندما يهلُّ علينا الصوم المقدس ربيعنا الروحي، لنكن كالجنود نصقل أسلحتنا، وككرَّامين نشحذ سككنا، وكصيادين نرتِّب أنفسنا ضد أمواج الشهوات الجامحة، وكغرباء نستعد لرحلة السماء، وكمصارعين نتجرد للصراع. فالمؤمن يجمع في نفسه كل هؤلاء. لذلك يقول الرسول: «مصارعتنا ليست مع دم ولحم، بل مع الرؤساء مع السلاطين... من أجل ذلك احملوا سلاح الله الكامل» (أف 6: 13،12). فإن كنتَ مُصارعاً يلزمك أن تكون عارياً من كل شيء حتى تغلب. وإن كنتَ جندياً فيليق بك أن تصطف على خط المعركة مدجَّجاً بالسلاح. فكيف يجتمع هذان الأمران معاً: أن تكون مجرَّداً عارياً، وأن تكون مغطَّى كلك بالسلاح؟ كيف؟

أنا أقول لك: جرِّد نفسك من هموم العالم تصير حينئذ مُصارعاً. البس السلاح الروحي تكون جندياً. اخلِ ذاتك من الاهتمامات الدنيوية لأن هذا موسم الجهاد، والبس السلاح الروحي لأن لنا حرباً شديدة مع الشياطين.

فيلزمنا أن نتعرَّى حتى لا يجد فينا الشيطان ما يمسكنا منه في حربنا ضده، ونتسلَّح كذلك من كل جانب حتى لا تؤثِّر فينا ضرباته المميتة. فلِّح روحك، اقتلع منها الأشواك، ابذر فيها كلمة التقوى. ابذر وارعَ بمنتهى العناية زرع الحكمة الإلهية... اشحذ المنجل الذي صدأ من كثرة الأطعمة، اشحذه بالصوم. امسك بالطريق المؤدِّي إلى السماء...](9).

أضف تعليق


كود امني
تحديث

تم التطوير بواسطة شركة ايجى مى دوت كوم
تصميم مواقع مصر - ايجى مى دوت كوم