ليس في أنصاف الحقائق أي إنصاف للحقائق. فهي على الرغم من ظاهر صدقها! لا تعطى مفهومًا كاملًا للحقيقة كما هي... ولذلك حسنًا أنه في الشهادة أمام المحكمة، ينصّ القَسَم الذي يقول الشاهد على أنه يقول الحق كل الحق ولا شيء غير الحق. وعبارة (كل الحق) لها معناها بلا شك...
وكمثال أنصاف الحقائق إنني في بدء رهبنتي -وأنا أتأمل في حياة الاتضاع- كتبت هذه الأبيات:
يا تراب الأرض يا جَدّى وجَدّ الناس طُرا
أنت أصلى أنت يا أقدم من آدم عُمرا
ومصيري أنت في القبر إذا وُسّدتُ قبرا
فلما تقدمت في حياة الروح، غيرّت رأيي وقلت:
ما أنا طين ولكن أنا في الطين سكنتُ
لست طينًا أنا روح من فم الله خرجتُ
وسأمضى راجعًا لله أحيا حيث كنتُ
وفى مجموعتي الأبيات هاتين تظهر أنصاف الحقائق. فالإنسان ليس مجرد إنسان مخلوق من تراب الأرض وحده، ولا هو مجرد روح من عند الله، إنما هو مكوّن من الجسد والروح كليهما معًا...
موضوع (أنصاف الحقائق) كما ينطبق على الكلام، كذلك ينطبق على الحياة العملية أيضًا. وسنقدم. لذلك الكثير من الأمثلة:
ففي محيط الأسرة، يحدث الطلاق أحيانًا. وكل من الزوج والزوجة يلقى السبب في ذلك على الطرف الآخر. فالزوجة تقول إن سوء معاملته لي هي السبب. بينما يقول هو إن تصرفاتها الخاطئة كانت تثيرني باستمرار. على أن هذه الاتهامات المتبادلة بين الطرفين تمثل نصف الحقيقة. أما النصف الثاني الأساسي، فهو أن المحبة المتبادلة. التي كانت بينهما والتي كانت هي الدافع إلى الزواج قد فترت ثم ظلت تقل بالتدريج إلى أن زالت وحال محلها شعور بالضيق والرغبة في الانفصال...
هناك في الحياة العملية أيضًا نصفان من الحقيقة يجب أن نذكرهما معًا، وهما الحق والواجب، أي الذي لك، والذي عليك. فأنت مثلًا لك حق في الموضوع الفلاني، ولكن من الناحية الأخرى عليك واجب أو واجبات... وبنفس المنطق نتحدث عن الفعل وما يقابله من رد الفعل..
فأنت تقول من حقنا أن نضرب عدو وطننا. ونجيب بأن هذا أمر لا يجادل فيه أحد. ولكن أن النصف الثاني من الحقيقة هو أن العدو لن يظل صامتًا أمام ضربتنا، بل سيقابلها من جانبه بضربات ربما تكون أشد. فما نتائج ذلك؟ وهل ستكون في صالحنا أم ضدنا؟! إن كل شيء ينبغي أن يُحسب له حساب. والحماس للحرب ينبغي أن يوضع إلى جواره خطورة الحرب وتكاليفها ونتائجها من تخريب وتدمير وقتل...
شخص يقول: لقد ضاقت بي الحياة هنا. والأصلح لي أن أهاجر لأخذ في الخارج حياة أفضل. ويقف أمام هذا الشخص النصف الآخر من الحقيقة وهو: كيف يسافر؟ وهل إجراءات الهجرة سهلة؟ ثم إذا سافرت إلى الخارج، هل ستجد وظيفة تليق بها، وهل شهادتك العلمية معتمدة هناك؟ وهل ستجد سكنًا؟ وهل الوسط هناك يناسبك ويناسب أولادك وتربيتهم؟ وهل إذا ضاقت بك الحياة هناك أيضًا وفكرت أن ترجع إلى وطنك، هل ستجد عملك ومسكنك؟
فلا يصح إذن أن يركز أحد على نصف واحد من الحقيقة، ويتجاهل النصف الآخر وما يشمل من نتائج...
نلاحظ في المشتغلين بالصحافة أنه كثيرًا ما يركز الصحفي على حرية الكتابة والنشر، على النصف الثاني من الحقيقة أن حرية التعبير ينبغي إلى جوارها نزاهة التعبير وصدقه. أما إذا تطورت حرية التعبير إلى حرية في التشهير، فهذا أمر لا يقبله أحد.
وعلى العموم إن الحرية بوجه عام هي محبوبة ولازمة. ولكن هذا هو نصف الحقيقة. أما النصف الآخر فهو لزوم انضباط الحرية. فالحرية غير المنضبطة لها خطورتها وأخطاؤها....
يدعو كثيرون إلى السلوك المثالي ووجوبه. وهذا حسن جدًا. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والكتب الأخرى). ولكن النصف الآخر من الحقيقة هو العقبات والموانع التي تقف في طريق ذلك. فعلى الداعين إلى المثاليات، أن يسهلوا الطريق إليها، وأن يبحثوا عن العقبات التي تعترض طريقها، ويحاولوا أن يجدوا لها حلًا. فهناك فرق كبير بين التفكير النظري والتفكير العملي...
يتحدثون عن الغواية، فيذكرون باستمرار أن سبب سقوط الرجل هو المرأة. وينسون النصف الآخر من الحقيقة وهو نوعية أخلاق الرجل! فالرجل ذو الخلق المستقيم تكون لديه حصانة داخلية ضد كل إغراءات المرأة أيًا كانت. فنقاوة قلبه تمنعه من الخطيئة.
أما إن فسدت أخلاق الرجل، وزادت شهوته، وضعفت إرادته، فلا يلقى سبب سقوطه على المرأة...
في الدراسة يركز غالبية الناس على واجب التلميذ ومذاكرته واجتهاده... أما النصف الآخر من الحقيقة، فهو أيضًا المدرسة والمدرسون: فماذا عن اهتمام المدرس، ومدى كفاءته في الشرح والتفهيم؟ وماذا عن المدرسة والفصل الدراسي فيها يضم ستين طالبًا أو أكثر مما لا يعطى فرصة للمعلم أن يهتم بكل طالب!
فهل نلقى اللوم كله على التلميذ إذا لم يفهم ولم يستوعب! وبالتالي يكون عرضة للرسوب! فإذا أضفنا إلى هذا عدم عناية الأسرة به في الدراسة، فما ذنبه؟
إن التركيز على سبب واحد في رسوب التلميذ أو ضعف تحصيله، أمر غير عملي، إنما يجب الاهتمام أيضًا بباقي الأسباب...
هناك بعض أمثلة أخرى، نذكرها باختصار وتركيز في فقرات
* محبة الوطن هي واجب مقدس من جهة جميع أبنائه. والنصف الآخر من الحقيقة هو واجب الوطن نحو أبنائه. وهذا أمر على الدولة أن تقوم به، بكل مؤسساتها التشريعية والتنفيذية والشعبية
* النظام أمر لازم جدًا ومطلوب. أما النصف الآخر من الحقيقة، فهو من الذي يرتب النظام ويشرف عليه. وأيضًا شعب يؤمن بالنظام، ويرضى بالخضوع له.
* كل أمور الإصلاح يلزمها اقتراحات بناءة ومفيدة. ولكن من ذا الذي يضع المقترحات؟ ومن ينفذها؟
* يرى رجال الاقتصاد أن المال هو العصب الأساسي لكل مشروع. ولكن إلى جوار المال لابد من وجود اليد التي تديره وتحسن أنفاقه بأمانة وحكمة.