على أية حال لقد كان ابرام قائدا متمرساً بالقتال, فبعد أن انفصل عنه لوط عندما تنازع رعاتهما على المراعى (13: 7)وذهب ونصب خيامه فى سدوم, تعرضت مدن الدائرة (سدوم وعموره وأدمه وصبوبيهم ) لغارة تأديبية من العيلاميين وحلفائهم وأسر لوط واسرته ( 14: 1_12) , فأنطلق ابرام بجيشه الخاص متحالفا مع جيرانه الأموريين فى مطاردة طويلة حتى شمالى دمشق حيث انقض على المغيرين بخطة محكمة مستردا منهم كل ما غنموه.
إن هذه الصفات تنطبق مع ما تشير اليه الوثائق السومرية والمصرية والحيثية التى كشفت عنها الحفريات الحديثة فطوال الألف الثانى ق.م وعلى امتداد الشرق الأردنى كله كان لقب هابيرو يطلق على قبائل مسلحة دائمة التنقل تنتمى إلى أصل أرامى, وربما كان لقب هابيرو =عبرانى الذى دعى به ابرام (14: 13).
ويلفت النظر أن ابرام لم يفكر فى بناء مدينة ولا ابنه ولا حفيده, بل أقاموا جميعا فى الخيام, رغم أن الله أعلن لهم بوضوح تخصيص أرض كنعان لهم ولنسلهم مما يكشف ثقافة البدو الرحل (Nomades) التى نشأوا عليها, الأمر الذى استخدمه الروح القدس فيما بعد ليعطى عمقا روحيا لهذه الغربة لتى عاشها الأباء مرتبطين بالرب وليس بالأرض ( عب 11: 9 ,10).
كان الكنعانيون ساكنين فى الأرض (12 : 6 ,13 : 7) وقد قطعوا شوطا طويلا فى الحضارة والأستقرار عد أن اتقنوا الزراعة وبناء المدن, وبينهم إحتل ابراهيم بماله من حكمة واستقامة وثراء مكانته كشيخ من شيوخ القبائل ذا بأس وسطوة (23 : 6), وتعلق اولاده بهذه البقاع التى استطاع الأب أن يصنع لهم فيها مكانة بارزة , الا أن الحالة تبقى دقيقة, فنرى اسحق ثم يعقوب فى مساومات طويلة مع سكان الأرض حول المياه وأراضى الرعى (26 : 15- 33 ، 33 : 19)ولكن صلاتهم لا تنقطع بأصل العشيرة فى حاران حيث اقام اولاد ناحور اخو ابراهيم ( 22 : 20 - 24), وتبعاً للعرف السائد فى البادية يتزوج اسحق ثم يعقوب من بنات العشيرة الأصلية, ويرفض اولاد يعقوب بشدة أن يزوجوا اختهم لأحد الكنعانيين ( 34 : 1 - 29) على عادة البدو ينظرون بإزدراء إلى أهل الحضر.
ولكن رغم كل هذا, ورغم حياة التنقل المستمر التى عاشها ابراهيم واسحق ويعقوب, فقد كانت العشيرة تتدرج نحو حياة الحضر. لقد مارس ابراهيم الرعى فقط, اما اسحق فقد مارس الزراعة بنجاح إلى جانب الرعى(12 : 26) وكذا يعقوب وأولادة (7 : 37).
كان هذا عتيداً ان يصل بالعشيرة إن اجلا أو عاجلاً إلى الأندماج فى السكان الكنعانيين الذين سبقوهم فى تأسيس المجتمع الزراعى ، وإلى التطبع بعاداتهم ودياناتهم وعبادة ألهتهم التى ترعى المحاصيل كما كانوا يظنون !!
ولكن هذا الأنحدار بعيداً عن الله ، أوقفته فترات متعاقبة من الجفاف ، فحين يطول انقطاع المطر ، سرعان ما تنفذ الغلال ، ويتعرض البدوى لخطر فقدان ماشيته ، فيجعل بالرحيل إلى مصدر ثابت للمياه .. إن ذكريات الماضى تمنعه من العودة إلى ما بين النهرين ، فلا يبقى أمامه سوى اللجوء إلى أرض مصر .