بقلم: د. ماجد عزت إسرائيل
تجدر الإشارة إلى أن عباس العقاد كان من بين أوائل الكتاب والمؤرخين الذين تناولوا دراسة ما يعرف بـ"لفائف وادي القمران" التي اكتشفت في سنة (1947م)، وتزامن ذلك مع انتهائه من مؤلفه "حياة السيد المسيح" مما جعله يؤجل إصداره إلى حين الانتهاء من الشروح والمناقشات والردود حولها، لكي ما يتم إعداد دراسته عنها، وبالفعل تصدرت صدر كتابه "حياة السيد المسيح".
وتقع منطقة وادي القمران جغرافيًا شرق نهر الأردن وبالتحديد في "أريحا" وهي التي تعني "مدينة القمر" وقمران على بعد ثلاثة كيلو متر تقريبًا من البحر الميت، وتنخفض بنحو 825 قدمًا تحت مستوى البحر، ومناخها حار جاف صيفًا دفيء ممطر شتاءًا؛ مما ساعد على حفظ آثارها ومن بينها "لفائف قمران".
على أية حال، اكتشفت لفائف وادي القمران في ربيع سنة 1947م بطريقة الصدفة، أو يمكن القول أن العناية الإلهية حفظتها حتى عثر بعض الرعاة من البدو على مغارة منعزلة بين الصخور المطلة على الشاطئ الشمالي الغربي من البحر الميت، ومن داخل جرة محطمة سحب أحد الرعاة ثلاثة مخطوطات جلدية ظلت في هذا المكان منذ آلاف السنين، وبفحص هذه المخطوطات أكتشف أنها بعض أسفار الكتاب المقدس، وبعد اكتشاف هذه المخطوطات توالت البعثات الأثرية والعلمية لمواصلة البحث والتنقيب فتوصلت إلى اكتشاف أحد عشر كهفًا في ذات المكان.
ومخطوطات لفائف البحر الميت أو وادي القمران هي عبارة عن اثني عشر درجًا من أدراج الكتاب المقدس، ترجع إلى القرون الثلاثة الأولى قبل الميلاد، والقرن الأول الميلادي، وبالتحديد مابين (250 ق.م -100م) وهي كما يلي:
- لفة سفر اللاويين والخروج وصموئيل ترجع إلى عام (250ق.م)، ويرى فريق من العلماء أن لفة صموئيل تعود إلى حوالي( 280ق.م)، ويرى أحد العلماء أن هناك لفة لسفر اللاويين تعود إلى سنة (400ق.م) وهي بذلك قريبة من عصر عزرا ونحميا وحجى وزكريا وملاخي.
- خمسة عشر مخطوطة لسفر التكوين.
- خمسة مخطوطات لسفر الخروج.
- ثمانية مخطوطات لسفر اللاويين.
- ست مخطوطات لسفر العدد.
- خمسة عشر لسفر التثنية.
- مخطوطان لسفر يشوع.
- ثلاثة مخطوطات لسفر القضاة.
- أربعة مخطوطات لراعوث.
- أربعة مخطوطات لصموئيل الأول والثاني.
- أربعة مخطوطات للملوك الأول والثاني ولأخبار الأيام الأول والثاني.
- مخطوط لسفر عزرا ونحميا.
- أربعة لسفر أيوب.
- سبعة و عشرون مخطوطًا للمزامير.
- مخطوطان للأمثال.
- مخطوطان للجامعة.
- أربعة مخطوطات لسفر نشيد الإنشاد.
- ثمانية عشر مخطوط لإشعياء.
- أربعة مخطوطات لإرميا.
- أربعة مخطوطات للمراثي.
- ست مخطوطات لحزقيال .
- ثمانية مخطوطات لدانيال.
- ثمانية مخطوطات للأنبياء الصغار.
ومنذ ذلك الحين ومازال العلماء يكتشفون في هذا المكان آلاف المخطوطات، ومن بين اللفائف المكتشفة أجزاء من كل أسفار العهد القديم ما عدا سفر استير، وقد وجد سفر أشعياء بأكمله تقريبًا، ووجد كتاب يتكلم عن نظام الجامعة التي كانت تسكن هذه البقعة وهي جماعة "الأسينين" هذا إلى جانب الأشعار الدينية، ويعتبر هذا الاكتشاف أقدم ما وصلنا من العهد القديم، وهي تطابق تمامًا النصوص الموجودة حاليًا بالكتاب المقدس.
وقد أكد عباس محمود العقاد على أهمية لفائف وادي القمران لأنها تشتمل على نسخة كاملة من كتاب أشعياء، ونسخة مقروءة سليمة بعض السلامة من تفسير نبوءات حبقوق، وشذرات من تفسير كتاب ميخا، وقصة تسمى الحرب بين أبناء النور وأبناء الظلام، وأناشيد منظومة للدعاء والصلاة ونسخة آرامية من كتب التوارة.
وأشار العقاد إلى وجود مخطوطة كاملة عن "جماعة النساك" الذين أقاموا زمنًا بصومعة (القلالي) وادي القمران، ومخطوطة أخرى تضم الوصايا والأوامر عن آداب السلوك، بين زمرة دينية تشبه الزمرة المسيحية الأولى في الشعائر والعبادات.
على أية حال، أكد العقاد على أن الفترة ما بين عام (1947-1952م) كانت سيل لم ينقطع من مؤلفات المفكرين الدينيين وغير الدينيين عن "السيد المسيح" من وجهة النظر العصرية بعد الحرب العالمية الثانية (1939-1945م) على ضوء لفائف وادي القمران.
كما أن عباس العقاد أكد على شموليتها قائلاً: "ولو أن أحد أراد أن يحيط بأطراف الكتب والرسائل التي تناولت مسائل البحث في تلك اللفائف خلال هذه السنوات الخمس، لما استوعبها جميعا ولو فرغ لها كل وقته، وحسب القارئ العربي أن يعلم أنها بُحثت من كل ناحية تشترك في موضوعاتها الدينية أو اللغوية أو التاريخية أو الحفرية أو الكيماوية أو الصناعية، ولم تخل منها لغة من لغات الحضارة الغربية. فقد تناولت البحوث مسائل الهجاء وقواعد الكتابة، واختلاط اللهجات واللغات، ومواد الورق والجلد والمداد واللصق والتجفيف، كما تناولت أسماء الأعلام وما إليها من الألقاب والصفات وما يقترن بها من تواريخ الشعوب والقبائل، وموقع الأرض وعوارض الجو والفلك وأصول العقائد وشعائر العبادات في كل فترة على حسب حظها من الأصالة والاستعارة، وعلى حسب المصطلحات التي تلازمها ولا تعهد في غيرها، واتسع نطاق البحث إلى غاية حدوده لتحقيق نماذج البناء، وصناعة الآنية الفخارية، وعادات الأكل والشراب، وأزياء الكساء، ومواد الأطعمة، وثمرات النبات، وتراوحت تقديرات الزمن بين القرن الخامس قبل الميلاد والقرن الأول بعد الميلاد، ولم تستقر بعد كل هذا التوسع وكل هذا الإمعان والتدقيق على قرار وثيق".
وسجل لنا العقاد خلاصة ما لمسه في هذه اللفائف حيث قال: "إن الجديد في الأمر لا يزال من عمل السيد المسيح أو من فتوحه المبتكرة في عالم الروح، وأن كل مشابهة به عليه السلام وبين مذاهب الدين قبل عصره تنتهي عند الظواهر والأشكال، ولا تدل على فضل أسبق من فضله فيما ارتقت إليه عقائد الدين على يديه".
ولعل أرجح ما وصل إليه عباس العقاد أن نساك وادي القمران كانوا زمرة من "الأسينيين" إحدى الطوائف المتشددة في رعايتها للأحكام الدينية، وانتظارها للخلاص القريب بظهور السيد المسيح الموعود، وهذه هي الطائفة التي ذكرها في "عبقرية السيد المسيح" ووصفهم: "بأنهم كانوا ينتظمون في النحلة على ثلاث درجات.. وأن أحدهم يُقسِم مرة واحدة يميل الأمانة والمحافظة على سر الجماعة، ويحرّم القسم بالحق أو الباطل مدى الحياة، وليس بينهم رئاسة ولا سيادة.. والمادة عندهم مصدر الشر كله، والسرور بها سرور بالدنس والخباثة.. وكانوا يتآخون ويصطحبون اثنين اثنين في رحلاتهم.. وهم مؤمنون بالقيامة والبعث ورسالة السيد المسيح المخلص، معتقدون أن الخلاص بعث روحاني يهدي الشعب إلى حياة الاستقامة والصلاح".
وأكد العقاد أن زمرة وادي القمران كانت تنتمي إلى "الآسين" وصح أكثر من ذلك أن صومعتهم كانت البرية التي كان يلوذ بها السيد المسيح ويوحنا المعمدان، فالجديد في هذا الكشف هو توكيد الحاجة إلى رسالة السيد المسيح، أو توكيد فضل الدعوة المسيحية في إصلاح عقائد القوم، كما وجدتها على أرقاها وأنقاها بين أتباع النحل اليهودية قبيل عصر الميلاد.
نخلص من ذلك إلى أن لفائف وادي القمران فتحت الباب أمام جمهرة الباحثين من الأثرين والمعماريين والمؤرخين والكيميائيين، وأنها أكدت على صحة الكتاب المقدس لتطابق ما ورد بها، كما أنها لفتت الأنظار إلى دراسة الشعوب والأمم مثل نساك وادي قمران الذين ينتمون إلى جماعة الأسينيين -كما رأينا- وهذا ما أكده عباس محمود العقاد الذي كان في كتاباته سابق لعصره.